سيميك: مـن «لاجئ» إلى «أمير شعراء أميركا»

سيرة طازجة من لحم ودم، وتجربة حياتية وجمالية تلك التي يتجاور فيها الشعر مع القنابل وقصص اللاجئين الذين لا يحبهم أحد، وتوقّعات المشردين الوردية حول الغد.. سيرة حافلة بالمحطات والعواصم المؤقتة والدائمة، من بلغراد إلى باريس إلى الطرف الآخر من العالم، حيث نيويورك وكاليفورنيا وشيكاغو، في زمن الأبواب المفتوحة التي لم تعرف حظراً على الحالمين بأرض أقل جثثاً وأكثر هدوءاً، ليتحول بطل تلك السيرة من «لاجئ» لا يجيد الإنجليزية، إلى «أمير للشعراء» في الولايات المتحدة الأميركية.

بمثابة قصيدة طويلة تتخطى الـ300 صفحة؛ يأتي كتاب «ذبابة في الحساء» الذي يلخص سيرة ومسيرة المبدع، تشارلز سيميك، في إطلالة عربية خاصة، على يدي المترجمة إيمان مرسال (الشاعرة التي تترجم الشاعر بلا خيانة، ولا حتى مقدمة ولا خاتمة للمترجم على غير العادة)، لتخلص الصفحات لتشارلز سيميك وحده، ويطالع القارئ منذ السطر الأول صوت الشاعر و«جِرابه» المزدحم بالتفاصيل والحكايا، التي يستهلها مع ذكريات العائلات المشرّدة من أوروبا الشرقية بسبب الحرب، والوقوف الطويل في طوابير لأجل تصريح إقامة مؤقت في العاصمة الفرنسية باريس، والحلم بالاستقرار في أميركا أو كندا.

يستعيد تشارلز سيميك أيام ما قبل اللجوء والتشرد والمنفى، ودوي القنبلة الأولى وهو في الثالثة من العمر، وما صنعته في الحي والجيران، ويذهب إلى أبعد من الميلاد، يتأمل صورة قديمة جداً لوالده، تعود إلى عام 1928، خلال حفل رأس السنة تحديداً، كان الأب المتأنق يزهو (في الصورة) ببدلة سوداء، وذلك الاستدعاء يأتي لغرض آخر، ففي الزمن الصعب اضطر أفراد الأسرة الجوعى إلى مقايضة تلك البدلة وسواها من الممتلكات العائلية بالطعام: قبعة للوالد، ساعات، مزهريات، أطباق الصيني.

أكثر من مجرد ترجمة

أكثر من مجرد وساطة، ونقل من لغة إلى أخرى، تأتي ترجمة إيمان مرسال لـ«ذبابة في الحساء»، إذ تبدو مبدعة «ممر معتم يصلح لتعلم الرقص» على موجة واحدة مع تشارلز سيميك، وصاحبة عشرة طويلة لنتاجه الإبداعي الغزير، لذا جاءت الحكاية بلا فجوات، وكأنها عربية المنبت، تحضر فيها يوميات سيميك وثوراته وتجاربه ونصوصه، وليست مبالغة روحه أيضاً التي ترفرف بفضل رشاقة الترجمة بين الصفحات في نسختها العربية.

قصة المشردين

«قصتي قصة قديمة وأصبحت الآن مألوفة، لقد تشرّد كثير من الناس في هذا القرن. أعدادهم مهولة ومصائرهم الفردية والجماعية متنوعة، سيكون مستحيلاً أن أدعي تميز وضعي كضحية، أنا أو أي شخص آخر، إذا أردت الصدق، خصوصاً أن ما حدث لي منذ 50 عاماً يحدث لآخرين اليوم».

318

صفحة يقع فيها كتاب «ذبابة في الحساء» لتشارلز سيميك الذي ترجمته إيمان مرسال، وصدر عن «الكتب خان» في العاصمة المصرية القاهرة.

سخرية

في محطة بلغراد وزمن الحرب وما وليه، يتوقف تشارلز سيميك طويلاً، يسخر من النازية والشيوعية والحلفاء، والطائرات التي تصبّ القنابل على العالم، يتذكر بشكل خاص والده الذي يتهكم من كل شيء، يرى تلك القنابل «بيض عيد الفصح»، وظلت تلك طريقته حتى إنه بعد ذلك بسنوات طويلة حينما تعرّض لأزمة قلبية، سأله الأطباء: «كيف تشعر يا سيدي؟» فأجابهم: «أتمنى أن أطلب بيتزا... ظن الأطباء أنه أصيب بتلف في المخ. كان علي أن أشرح لهم أن هذا سلوكه الطبيعي».

تمكن هذا الأب من الهرب إلى إيطاليا، ونجح في العبور إلى الجهة الأخرى، أميركا، وستلحق به الأسرة، لكن بعد محاولات باء بعضها بالفشل، في عام 1945، بعد مشي طويل عبر الحدود، وتوقيف وسجن.

بخفة مستعلية على كل الأسى، يفتش سيميك عن ذكرياته، يحكي عن السنوات الرمادية والطفولة والتسكع، وقصته مع الإصابة بالقمل، بعد اليوم التالي لتحرير بلغراد، بسبب ارتدائه لخوذة جندي ألماني ميت، فصار موضع سخرية من الجميع في العائلة: «هذا الغلام كان مغفلاً بما فيه الكفاية ليعتمر خوذة ألمانية مليئة بالقمل ويتمخطر بها في الحي. لقد كان القمل يزحف عليها كلها وأي أحمق كان باستطاعته الانتباه لذلك».

الشاعر سيميك لم يولد فقط من قنابل الحرب الكونية والصعلكة المبكرة وسط جثث الجنود في الشوارع، بل كان ثمة إدمان للقراءة في الصغر، إذ امتلك الوالد مكتبة تحتوي على روائع تعلّق بها الفتى سيميك: «قرأت زولا وديكنز وحتى ديستوفسكي.. أحببت الملاحم والقصائد والأغاني الشعبية.. لم يغادرني أبداً هذا الاحتياج للقراءة، مازلت أقرأ كل أنواع الكتب في مختلف الموضوعات، ربما لذلك أعرف القليل عن أشياء عديدة عظيمة، يمكنني أن أحيا وأموت في مكتبة عظيمة».

محطات

كثيرة هي محطات «ذبابة في الحساء»، فبعد يوغسلافيا (التي كانت)، وإثر محاولات متعددة للأم، تقيم «الأسرة اللاجئة» في باريس (عام 1953 وعمر الصبي 15 عاماً)، ويلتحق سيميك «الأجنبي المريب» بمدرسة يتعثر فيها، ويتعرض للتهكم ويكون «الصفر» دوماً من نصيبه، لكن كانت من إيجابيات المدرسة توفير وجبة غداء مجانية. وفي باريس بدأت علاقة سيميك مع اللغة الإنجليزية عبر دروس مجانية كذلك في مدرسة ليلية: «لا أعتقد أنني كنت أعرف 10 كلمات إنجليزية. أمي كانت تعرف الإنجليزية بعض الشيء. على أي حال كنا في الفصل مع مجموعة من اللاجئين من كل أنحاء أوروبا الشرقية، ومدرسنا كان قساً أميركياً في غاية اللطف، عملت بجدية لأول مرة، وأحببت اللغة على الفور».

بعد الفحص الطبي واللقاء بالممرضات اللواتي لا يبتسمن، حصلت الأسرة على التأشيرات الأميركية في يونيو 1954، وبعدها بأسابيع كان السفر «في الخامس من أغسطس على باخرة الملكة ماري. يا لها من إثارة! الجميع قالوا لنا: ستبدأون حياة جديدة، حتى البقال أكد لنا أن حياتنا هناك ستكون رائعة».

محطة باريس كانت محورية في تعميق معاناة «اللاجئ»، إذ يفصّلها تشارلز سيميك، ويستدعي مشاهدها المحفورة في داخله: «أتذكر الوقوف في طوابير لا نهاية لها أمام مقر البوليس في باريس من أجل استلام أو تجديد تصريح الإقامة. يبدو ذلك كأنه كان كل ما نفعله عندما كنا نعيش هناك. ننتظر نهاراً كاملاً فقط لنكتشف أن القوانين قد تغيرت بعد زيارتنا الماضية، إنهم الآن يطلبون - على سبيل المثال - شيئاً على قدر من العبث مثل وثيقة زواج والدي من أمي أو شهادة تخرجها في المدرسة، هذا على الرغم من أنها في طريقها للحصول على شهادة فرنسية لأنها أنهت دراستها العليا في باريس. وبينما كنا نقف هناك نتأمل استحالة ما يطلبونه منا، كنا نستمع إلى شخص أمام الشباك المجاور يحاول أن يقول بفرنسية ركيكة كيف احترق بيتهم، كيف غادروا مهرولين بحقيبة واحدة صغيرة، وهلم جرا، إلى أن يهز الضابط كتفيه ويشرع في إعلامه أنه إذا لم يقدم الوثائق فوراً فسيتم إلغاء تصريح الإقامة.. في كل مكتب لجوازات سفر، في كل قسم بوليس، في كل قنصلية، يوجد مكتب وخلفه موظف سيئ المزاج يشتبه في أننا ندعي غير حقيقتنا. لا أحد يحب اللاجئين. أن تسمى مشرداً يعني أن يزداد وضعك سوءاً».

في المحطات التالية من سيرة تشارلز سيميك ربما ستتراجع نبرة اللاجئ، لتحل مكانها في الحكاية صفة «المهاجر» وشعور من يبحث عن موضع مرحّب كي يمد فيه جذوره التي خلعها من بلاد البلقان، حتى إن الأب اعتاد أن يسأل ابنه: «إلى أين ستهاجر المرة المقبلة».

تمزيق

تبدأ مسيرة سيميك مع الشعر، إذ نشر (بعد أن تحسنت لغته) أولى قصائده في 1959، وقسّم يومه بين العمل «والكورسات» وكتابة القصائد والمطولات حتى، وحينما التحق بالجيش الأميركي مزق 200 صفحة مليئة بنصوص رآها بعيدة عما يحلم به: «كنت مازلت أريد أن أكتب الشعر، لكن ليس هذا النوع».

ظل سيميك مرتبطاً بالقراءة: «لا أبالغ كثيراً عندما أقول إنني لم أكن أذهب إلى الحمام من غير كتاب في يدي. أقرأ حتى أسقط في النوم وأستأنف القراءة بمجرد أن أصحو، أقرأ في وظائفي المختلفة مخبئاً الكتاب بين الأوراق أو في درج المكتب نصف المفتوح.. عندما أكون في نعشي المفتوح سأحمل معي كتاباً».

يشار إلى أن تشارلز سيميك أصدر أكثر من 70 كتاباً بين شعر ونثر وترجمة. اختارته مكتبة الكونغرس أميراً للشعراء في الولايات المتحدة الأميركية عام 2007، كما حصل على العديد من الجوائز منها بوليتزر 1990، وجريفين عام 2004، وجائزة والاس ستيفنز في 2007. وعمل أستاذاً للأدب في جامعة نيوهامشر.

أما المترجمة، الشاعرة المصرية إيمان مرسال، فتعمل أستاذاً مساعداً للأدب العربي ودراسات الشرق الأوسط بجامعة ألبرتا الكندية. ومن إصداراتها: «جغرافيا بديلة» 2006، و«حتى أتخلى عن فكرة البيوت» 2013. كما ورد في التعريف بسيميك ومرسال على غلاف «ذبابة في الحساء».

الأكثر مشاركة