تفتيش عن «الحقيقة» وتشويق يصل الحاضر بالماضي

أمبرتو إيكو يحلّق بجناحين في «العدد صفر»

صورة

كسر صاحب «اسم الوردة» القاعدة، فخلّص الفيلسوف من تهمة الإبداع التنظيري الجاف، إذ نجحت أعمال الأديب الإيطالي أمبرتو إيكو، الذي رحل في 19 فبراير 2016، في تحقيق حضور طاغ، يحلّق بجناحين، فكراً وسعياً لاكتشاف الحقيقة ــ أو ما يظن أنها كذلك ــ وكذلك تشويقاً وسيراً بين «غرائب» الحاضر والماضي.

ليست بعيدة عن تلك الأجواء.

رواية أمبرتو إيكو «العدد صفر»، التي ترجمها إلى العربية، أخيراً، التونسي أحمد الصمعي، إذ تتأرجح بين زمنين، وتحقق في اهتراء مرحلتين، لتصل إيطاليا التسعينات بإيطاليا الحرب العالمية الثانية وأواسط الأربعينات، تطارد ما تطرحه في البداية على أنه مجرد تخمينات، وخيالات صحافي مهووس بالمؤمرات الكونية، لكن يبدو أن القصة لم تكن كلها مجرد أوهام، إذ تنتهي الحال بمقتل ذلك الرجل، لذا تأخذ الحكاية مساراً آخر.


مع «السبت 6 حزيران/‏‏‏‏ يونيو 1992، الساعة 8» يستهل أمبرتو إيكو «العدد صفر»، لتنطلق الأحداث من ذلك الصباح، ومشهد «الراوي» الذي يبدو مرتاباً في كل ما حوله، يخشى وضع قدمه خارج منزله، خوفاً من أن يلقى مصير زميله الصحافي.

تشويق أول

172

صفحة تقع فيها «العدد صفر» التي صدرت عن دار الكتاب الجديدة المتحدة.

كثير من التشويق تحمله الصفحات الأولى، فثمة كاتب خمسيني فاشل، كما يصف ذاته (يكتب في الظل لآخرين)، يقصّ طرفاً من حكايته، متوجس من قتل قريب، ويحاول أن يضع تبريراً للفصل الأخير من قصته التي تعقّدت بشكل غريب، فبعد أن كان زاهداً في كل شيء، مكتفياً بالعمل في بعض الترجمات عن اللغة الألمانية (يترجم بلا روح كما الآلة)، ومراجعة النصوص لعدد من دور النشر، وتأليف بعض الروايات البوليسية لغيره، جاءته الفرصة: «لم تكن حياة جديرة بالاهتمام. وفي الخمسين من عمري جاءتني دعوة سيماي. لم لا؟ لا بأس في أن أجرّب هذه أيضاً».

عرض سخي، ودعوة لا ترفض، وجد نفسه أمامهما بطل الحكاية، ليكشف عن أسرار في بلاد حافلة بها، فالجريدة التي تعد للانطلاق، لن تنطلق، وستكتفي بتلك الأعداد «الصفرية» التحضيرية الأولى، ومجلس تحريرها سيكشف عن الكثير، خلال تجهيزه لمشروع جريدة الغد التي يموّلها «فيمركاتي. يظهر اسمه من حين إلى آخر في الصحف: إنه يدير ما يقرب من 10 فنادق على الساحل الأدرياتيكي، ويملك عدداً كبيراً من دور المتقاعدين والمعوقين، وله بعض الصفقات المريبة التي كثر في شأنها اللغط، ويدير بعض المحطات التلفزية المحلية، التي تبدأ برامجها في الـ11 ليلاً، ولا تذيع سوى مبيعات بالمزاد العلني، ومبيعات عبر التلفزة، ومنوعات إباحية.. ونحو 20 من المطبوعات.. صحف هابطة، على ما أظن، وأقاويل عن بعض المشاهير».

الغرض من الجريدة الجديدة هو ممارسة ضغط ما، إظهار أنها مستعدة لقول الحقيقة في كل شيء، ونشر كل الأخبار التي تستحق، هذا في الظاهر، بينما في الباطن سيمارس بها الإمبراطور المالي ضغوطه على من يريد، ولن تصدر «الغد» أبداً، إذ لن يتصفح القارئ سوى اجتماعات مجلس تحريرها (ستة أشخاص من بينهم كولونا راوي الحكاية).

من ميلانو إلى سواها

مفاتيح

• «إذا عاش المرء بآمال مستحيلة فهو فاشل».

• «إذا كنت تريد أن تتفوق فعليك أن تعرف شيئاً بعينه، دون إضاعة الوقت في معرفة كل شيء».

• «كلما أكثرت من معرفة الأشياء سارت الأشياء في غير طريقها».

• «عند قراءة بعض الكتب يبدو أحياناً أن كاتبها لم يقرأها».

• «يا عزيزي سنبحث عن بلد لا توجد فيه أسرار وكل شيء يقع في وضح النهار».

• «لو أنني تحررت من وسواس الفشل لربحت على الأقل جولة».

مناخ برائحة كريهة تصوره الرواية، تنتقده بلا هوادة في إيطاليا التسعينات، تهاجم من تراهم المتسببين في ذلك، تنطلق من ميلانو إلى ما حواليها من مدن أخرى، ولا تكتفي بحدود بلادها، إذ تتجول شرقاً وغرباً، طارحة هموم أمكنة أخرى، تتشابك مع خيوط إيطاليا، سواء في الحاضر أو الماضي، إذ يوسّع المؤلف أمبرتو إيكو الدائرة، ويرنو من القريب إلى البعيد، ينطق شخوص روايته بهموم آخرين في هذا العالم المترامي، ليتحدث أبطال الحكاية عن الحرب العالمية الثانية وحتى حرب الخليج، عن المؤمرات والافتراضات، عن موسوليني الذي لم يعدم (من وجهة نظر الصحافي بروغادوتشيو) وهرب إلى الأرجنتين، مروراً بالمافيا والقضاة، وصولاً إلى وكالات الاستخبارات الأميركية.

لا يطرح أمبرتو إيكو كل تلك الخيوط بشكل فج، أو يدير حكايته بصورة مباشرة، بل يسردهابمفارقة ساخرة، ويجعل الهموم الكبيرة والأحداث المحورية مرتبطة بحياة شخصيات الرواية. قد يفاجأ قارئ ما بالوجه الآخر لإيطاليا، كمية العطب التي تضرب الكثير من الأمكنة، حتى إن الراوي لا يعرف إلى أين سيهرب، بعد أن تم العثور على زميله الصحافي مقتولاً، يبدو غير متيقن بأن ثمة مكاناً آمناً داخل وطنه، ولا حتى خارجه، وتلك هي المفارقة: «أين سنذهب، لقد رأيت وسمعت أن الأشياء نفسها تقع في كل أوروبا، من السويد إلى البرتغال، تريدين الهرب إلى تركيا بين الذئاب الرمادية، أو إلى أميركا، إن سمحوا لك بذلك، حيث يقتلون رؤساءهم، وحيث يحتمل أن تكون المافيا اخترقت وكالة الاستخبارات المركزية، العالم صار كابوساً، يا حبيبتي أنا أريد النزول، ولكنهم قالوا لي إنه غير ممكن، نحن في قطار سريع لا يقف في المحطات الوسطى».بقيت الإشارة والإشادة بذلك القابع في كواليس الرواية بنسختها العربية، وهو المترجم التونسي أحمد الصمعي، صاحب العشرة الطويلة والخبرة بمكونات ومفردات الأديب والموسوعي والفيلسوف الإيطالي إيكو، فتعريب إبداع بحجم هذه القامة النقدية والإبداعية ليس من السهولة بمكان، لا ينجح فيها سوى سابر حقيقي لأعماق ذلك العالم الحافل بالكثير والذي يسمى أمبرتو إيكو.

بين الكاتب والمترجم

أمبرتو إيكو (1932 – 2016) فيلسوف وناقد وروائي إيطالي، له إسهامات مهمة، وكان رئيساً للمدرسة العليا في جامعة بولونيا. من أعماله الروائية «اسم الوردة» 1980، والتي حازت شهرة كبيرة، وترجمت إلى العديد من اللغات العالمية، لاسيما بعد أن تحولت إلى فيلم سينمائي، أدى بطولته النجم شون كونري. ومن روايات إيكو أيضاً: «بندول فوكو» 1988، «جزيرة اليوم السابق» 1994، «باودولينو» 2000، «الشعلة الخفية للملكة لوانا» 2004، و«مقبرة براغ» 2010. وله عدد كبير من الإصدارات العلمية والأكاديمية.

أما المترجم أحمد الصمعي، فأستاذ للأدب الإيطالي في الجامعة التونسية، ونقل عن الأدب الإيطالي مجموعة من الأعمال البارزة، وعلى رأسها رواية «اسم الوردة»، إضافة إلى مؤلفات ذات طابع علمي وتاريخي.

تويتر