سعيد محمد نور: 500 وثيقـة نادرة تشهـد على ريـادة دبي التجـارية
كشف رئيس قسم التنسيق والمتابعة بديوان سمو حاكم دبي، المواطن سعيد محمد نور، عن مئات الأوراق القديمة والوثائق المهمة التي ورثها عن جده عبدالكريم محمود، أول رئيس «للفرضة» (الجمارك) في دبي، بالفترة الممتدة من 1920 إلى 1938، التي تبلغ نحو 500 وثيقة نادرة، توثّق لمرحلة مبكرة ومضيئة من تاريخ الإمارة التجاري، الذي شكلت فيه دبي حاضنة مدنية جذبت كبرى الشركات العالمية، والمعاملات التجارية البحرية المختلفة، منذ نهايات القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، الأمر الذي من المفترض أن يدفع الأبحاث التاريخية والدراسات التراثية المنكبة على تاريخ الإمارة، نحو منحى جديد يؤكد عراقة هذه المنطقة ودورها الريادي في ازدهار التجارة والملاحة، وما تبع هذا الانتعاش والتطور من حراك اقتصادي واجتماعي لافت قبل عقود من الزمن.
1985 العام الذي حصل فيه الحفيد سعيد محمد نور على كنز الوثائق التاريخي بمحض المصادفة وسط مقتنيات جده. البيت العود قال سعيد محمد نور، إن جده كان معالجاً ومداوياً للجروح والأورام وبعض الأمراض الأخرى، واعتمد في هذا العمل الخيري، الذي لم يكن يتلقى عنه أي مقابل، على الأعشاب الطبيعية، وتنقل بين بيوت العاجزين والمرضى داخل وخارج دبي، كما كان مجلسه عامراً بطلاب العلم الذين كانوا يتعلمون القرآن الكريم، وقد تربى في منزله العديد من أبناء عمومته وأنسابه؛ فكان بيته (البيت العود) بمثابة المنارة المعرفية المفتوحة لرواد العلم والتعلم. تبرز الوثائق التي تنفرد «الإمارات اليوم» بنشرها، أنواع البضائع المستوردة خلال تلك الحقبة من أرز وسكر وسمن وحبوب ومواد غذائية وغيرها من البضائع، بالإضافة إلى الأوزان المعتمدة ورسوم التحميل والتفريغ والتخزين المخصصة للفرضة، وحتى الغرامات التي يمكن فرضها على التجار في حال مخالفة التعليمات. المراسلات الموجهة من شركة الملاحة البريطانية الهندية، وبعض وكلائها كشركة كيري مكنزي إلى مدير الجمارك في دبي، وتشير الوثائق إلى وجود الشركة البريطانية الهندية للملاحة بدبي في فترة الثلاثينات، التي تعد أكبر شركة ملاحة عالمية تضم شركات أخرى مثل (P&O)، وفي سنة 2006 تمكنت موانئ دبي العالمية من تملّك الأخيرة، ما يشير إلى إمكانات دبي الكبيرة في إدارة الاقتصاد والتجارة والملاحة والموانئ العالمية منذ ذلك الوقت. (حمالباشي) كلمة تركية تعني مسؤولاً أو رئيساً، وكان أيضاً يحمل السلاح لحماية البلدة ومخازن «الفرضة» من اللصوص وقطّاع الطرق، في فترة كانت الحياة فيها شحيحة الموارد. |
الوثائق التي خصّ سعيد محمد نور «الإمارات اليوم» بنشرها بشكل حصري، لها دلالات تاريخية وأهمية كبيرة في حصر حجم ونوعية التعاملات التجارية والشركات العالمية التي تعاملت فيها دبي بتلك الفترة مع دول الخليج العربي ودول مجاورة مثل الهند، وفئات الكتبة العاملين آنذاك في «الفرضة»، والخطوط العربية المستعملة في المراسلات الداخلية والخارجية، وتنوع لغاتها بين العربية والإنجليزية وعدد من اللغات الأخرى، علاوة على معجم المسميات والأوزان والأحجام والقياسات المتنوعة التي اعتمدتها تلك الفترة لتشير بها إلى نوعية البضائع الواردة أو المخزنة، والكثير من التفاصيل الأخرى التي تقدم مادة تاريخية دسمة للباحثين والدارسين والمتعمقين في الشأن التاريخي.
حماسة سعيد الواضحة في عرض الوثائق ونشرها للعموم لها ما يبررها، إذ تبرز جلياً العمق التاريخي للإمارة على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، إذ يقول «قد يجهل الجميع قِدم التجارة في دبي، فالكثير منا لا دراية له بتاريخ العمل النظامي خلال عشرينات القرن الماضي، ولا يداخلني الشك في أن هذا العمل امتداد لمسيرة حافلة من العطاء المتجذر في رؤية القيادات المستشرفة لمستقبل هذه الإمارة منذ عهود مضت».
ويضيف «من خلال هذه الوثائق التي تتوافر لدينا، سنكون قادرين على تسليط الضوء على بعض أهم الحقب التاريخية لدبي معززة بمجموعة الأدلة والوثائق التي سيطلع عليها القراء للمرة الأولى، والتي ستكون شاهدة على المكانة التجارية الرائدة لهذه الإمارة في فترة تقاطعت مع الظروف الصعبة التي فرضتها الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث كانت في عهد المغفور له بإذن الله الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم، نقطة رئيسة للملاحة والتجارة التي عكستها اللوائح والنظم التي جسدتها مختلف التعاملات الداخلية والخارجية، بعد أن بدأت (الفرضة) في توثيق العمل الجمركي من خلال أعمال تخليص وشحن وتخزين البضائع الواردة إليها».
تأسيس العمل
يؤكد صاحب الوثائق أن جده عبدالكريم بن محمود بن الحاج قاسم كان رئيساً لـ«الفرضة» في الفترة الممتدة من 1920 إلى 1938، وكان لقبه «حمالباشي» و«الباشي»، هي كلمة تركية تعني المسؤول أو الرئيس، وكان يلقب بذلك كونه رئيساً للحمالين في فترة كانت أعمال «الفرضة» مقتصرة على تفريغ وتحميل البضائع، حين كان عبدالكريم بن محمود مكلفاً بإدارة الجمارك وتأسيس العمل النظامي بها، في عهد المغفور له الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم، وقد تمكن خلال مباشرته لمهامه من تطوير آليات العمل بها، وتحويلها إلى عمل نظامي موثق بدفاتر وسجلات شاهدة على كيفية تحصيل الرسوم الجمركية، وما تبعها من مخاطبات رسمية داخل الإمارة وخارجها، وغيرها من الأمور التنظيمية والإدارية (وفق الوثائق والمستندات المعروضة)، كما حمل «حمالباشي» السلاح لحماية البلدة ومخازن «الفرضة» من اللصوص وقطاع الطرق في فترة كانت الحياة فيها شحيحة الموارد، وكان فيها مسؤول «الفرضة» الأول مخولاً بمعاقبة المذنبين وسجنهم في القلعة.
كنز تاريخي
من جهة أخرى، يؤكد نور أن حصوله على كنز الوثائق التاريخي هذا، جاء بمحض المصادفة في عام 1985، بعد اطلاعه على المقتنيات القديمة التي احتفظ بها والده، وتيقنه من أهميتها وعدم توافر نسخة أخرى منها لدى الجهات المعنية في الدولة، في غياب أي أرشيف مخصص لحفظ وتوثيق البيانات الخاصة بتلك الفترة الممتدة منذ 1920، وفي هذا الصدد، يعلق قائلاً «من دواعي سرورنا كعائلة بأن نفتخر بجدنا الذي استطاع أن يسهم في تأسيس العمل النظامي في فرضة دبي (الجمارك)، أو كما كانت تسمى بأم الدوائر».
ويضيف «تلقيت العديد من العروض لشراء تلك الوثائق، التي يتجاوز عددها 500 وثيقة نادرة،
لكن تاريخ بلدي ليس للبيع، وأنا على أتم الاستعداد للتعاون مع كل الجهات الحكومية والخاصة والباحثين في مجال التاريخ والتراث، القادرين على إبراز دور الإمارة وحركة التجارة المزدهرة فيها».