محمد إقبال.. تعدّدت الأوصاف والمحبة واحدة
تعدّدت الأوصاف التي أطلقت عليه: مفكر مؤمن، وصوفي مصلح، وشاعر مرهف، ونابغة افتخر به هنود وباكستانيون وعرب وألمان وأوساط عالمية، إذ وهب للجميع عقله وقلبه.. إنه الفيلسوف الراحل محمد إقبال، صاحب الروح السامية المحبّة للإنسانية التي تنشد الخير لكل البشر.
ما دعيت.. إلا لبيت حمل الراحل عبدالوهاب عزام على عاتقه مسؤولية التعريف بفلسفة محمد إقبال وفكره، وكذلك شعره العذب، وترجم معظم نتاجه، مؤكداً «ما دعيت إلى إقبال إلا لبيت»، معتبراً أن أمثال ذلك المصلح لا تموت كلماتهم، إذ ظل متقد الفكر حتى نهاية حياته، وهو ينظم ديوانه الأخير «أرمغان حجاز» (رائحة الحجاز). ويروى عزام أنه حينما زار لاهور بعد رحيل إقبال، قدم إلى ضريح محمد إقبال وداره ونظم أربعة أبيات وسأل نقاشاً في دلهي القديمة أن ينقشها على لوح من الرخام وسلمها إلى القائمين على الضريح، ومنها: عربي يهدي لروحك زهراً.. ذا فخار بروضة واعتزاز كلمات تضمنت كل معنى.. من ديار الإسلام في إيجاز في قرطبة طاف محمد إقبال بالعديد من البلدان حول العالم، منها مصر وفلسطين، وكذلك إسبانيا، التي زار خلال رحلته فيها مسجد قرطبة، واستأذن السلطات في أن يصلي فيه، وله صورة شهيرة خلال تلك الرحلة. 1938 العام الذي غاب فيه الفيلسوف محمد إقبال. |
بحث إقبال عن مساحات التلاقي، وضع قدماً في تراث أجداده الفلاسفة والمتصوفة، وأخرى في آراء المفكرين الغربيين، وحاول أن يوائم بين هذا وذاك، صانعاً رؤيته الخاصة، التي جعلت منه واحداً من الخالدين في تاريخ الفكر والأدب.
ولد إقبال في سيالكوب في البنغاب الشمالي عام 1872، تعلم أولاً في لاهور، وسافر بعدها إلى إنجلترا عام 1905 ودرس الفلسفة والحقوق في كمبردج، وفي ربيع 1907 حطّ في مدينة هيدلبرغ الألمانية، وحصل على الدكتوراه من جامعة ميونيخ عن تطور فلسفة ما وراء الطبيعة في بلاد الفرس. عمل في المحاماة بعد عودته إلى وطنه، وألّف كتباً وأشعاراً، ومُنح لقب سير عام 1920 بعد تعيينه أستاذاً في جامعة لاهور.
«نسيم الحجاز»
توفي إقبال في أبريل عام 1938، وعطّلت الدواوين والمتاجر وأقفلت المدارس والجامعات والمحاكم والأسواق في جميع أنحاء الهند حداداً على وفاته، ولبس المسلمون أثواب الحداد أياماً حزناً على رحيل ذلك المصلح.
ومما نقل عنه أنه قبل موته بنحو 10 دقائق أنشد: نغمات مضين لي هل تعود؟ أنسيم من الحجاز يعود؟ آذنت عيشتي بوشك رحيل.. هل لعلم الأسرار قلب جديد؟»، وذلك كما يروي الأستاذ عبدالوهاب عزام، الذي خطّ كتاباً عن محمد إقبال، تناول فيه حياته وفلسفته وشعره، وعرّف بالرجل وآرائه، ليقرّبه إلى العرب الذي كان إقبال يجيد لغتهم، وزار أكثر من حيز في بلدانهم، واشتكى في بعض أشعاره من التجاهل الذي يجده في ديارهم، وقال في لحظة ما: «إن صوتي قد أوقد النار القديمة في بلاد إيران، ولكن العرب لا يعرفون شيئاً عن نغماتي الشجية».
بين العلم والإيمان
عن دار محمد إقبال التي توافد إليها الناس حينما علموا بوفاته في لاهور يقول عبدالوهاب عزام الذي انتهى من الكتاب عام 1954، وكان حينها سفيراً لمصر في باكستان: «رأيت هذه الدار مرات، ما ذهبت إلى لاهور إلا زرتها، وهي دار صغيرة، طبقة واحدة، يلج داخلها إلى فناء صغير، ثم يصعد درجات إلى بهو، يفضي إلى حجرتين عن يمين وشمال. دخلت الحجرة التي إلى الشمال وقيل هذه حجرة إقبال. كان ينام فيها ويكتب شعره، ويمضي كثيراً من وقته. قلت هذه الحجرة التي وسعت الدنيا بل وسعت العالم، بل وسعت ما هو أعظم من العالم وأوسع، قلب المؤمن. كم تنزل في هذه الحجرة وحي الشعر! وكم ازدحمت فيها أفكار الفلسفة! وكم خفق فيها قلب..».
وكما رثا إقبال، محمد علي جناح (مؤسس باكستان)، رثاه كذلك طاغور (الشاعر والفيلسوف الهندي)، وكأن الجميع توحّدوا على محبة ذلك محمد إقبال.
كان هدف محمد إقبال الجوهري التوفيق بين الإيمان والعلم، أو بالأحرى بين الدين والعلم، وحاول أن يعيد التوازن المفقود بين الدين والدنيا، وبين الروح والمادة، وكان القصد من وراء ذلك إصلاح الفكر الديني في العصر الحديث» كما ذكر المستشرق الألماني مانويل فايشر في مقال له منشور بمجلة «فكر وفن». أكد إقبال في كتاباته أن «الإسلام قصد إلى دخول الناس فيه ولكن دون إكراه.. الإسلام يفتح القلوب بغير سلطان سياسي». ولذا يروي أن أحد كبار الصوفية زاره أحد سلاطين الهند الذي كان مولعاً بالحرب والفتح: «وبينما السلطان يلتمس من الشيخ أن يدعو له بالنصر، تقدم أحد المريدين إلى الشيخ بدرهم قائلاً: كسبت هذا بكدي، وألتمس من الشيخ أن يقبله مني. فقال الشيخ للمريد: أعط هذا الدرهم سلطاننا، فهو أفقر الفقراء، وأحرص الناس على الاستجداء. كم خرّب بلاداً وقتل عباداً ليشبع. قد بطش جوعه بالخلق، وأهلك الحرث والنسل».