خالد الظنحاني يستدعي الماضي ويستشرف المستقبل في «أول منزل»
ينطلق الكاتب والشاعر والإعلامي خالد الظنحاني في كتابه «أول منزل» في فضاءات أكثر رحابةً واتساعاً، أطلق فيها العنان لقلمه، وكتب ما جادت به قريحته في لحظات من التأمل والصفاء، مترعة بالإحساس والإفادة والإثراء والتنوّع، مكتنزة فكراً عميقاً ونظراً حصيفاً، ورؤية ثاقبة وواعية بالواقع ومجريات الحياة.
ويحتفي الظنحاني في هذا الكتاب بمسقط رأسه وموطن شبابه ومرتع صباه بأسلوب جميل وماتع صاغ جمله بإحساس مرهف ووعي متّقد، فجاءت عباراته وتوصيفاته شاملة وحاوية المعنى الذي صيغت له، قوية المبنى جميلة المعنى، مترعةً بالأحاسيس الصادقة والبوح الشفاف ضمّنها جوانب من تجربته وأماط اللثام فيها عن مكنون ذاته وما كان يدور في خلده، في الخلوات والجلوات، من وفاء ومحبة وتعلّق بأول منزل نيّطت عليه فيه التمائم؛ ذلك المنزل الذي يتمظهر في تجربة الظنحاني وكتاباته في صور مختلفة، فأحياناً يحيل إلى مرابع الشباب الذي عاش فيها الكاتب طفولته الأولى وارتوى فيها من معين فكر لا ينضب، وأحياناً ينزاح إلى الوطن، حيث الكيان والكينونة والوجود، الوطن الذي يرافق الظنحاني في حلّه وترحاله وأنّى يمّم وجهه.
غواية العنوان
من مستهلّ عنوان الكتاب يصادف القارئ غواية من نوع خاص، وربما يصاب بشيء من الذهول والاندهاش وقتاً طويلاً، لكن ما إن يمعن النظر ويتدبّر حتى يتبدى له المعنى جلياً واضحاً كالشمس في رابعة النهار؛ فالعنوان إحالة عميقة الدلالة من الكاتب إلى الشاعر أبي تمام واستحضار لأبياته المشهورة التي يقول فيها:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنــــينه أبداً لأول منزل
وكأنّ الكاتب أراد التعبير بعمق عن مدى تعلّقه بذلك المكان الذي يمتّد ويمتّد ليشمل الوطن في أبهى معانيه وأسمى صوره وأشكاله، وهي غواية واضحة طفق الكاتب خلفها وارتمى في أحضانها للتعبير عما يخامر نفسه.
تمثّل استهلالات الظنحاني التي افتتح بها المحاور الأربعة الرئيسة للكتاب مدخلاً ثقافياً ومفاهيمياً يمكن من خلالها النفاذ إلى تجربة الرجل وفهم مرتكزاتها وأبعادها وتجلياتها، وذلك لكونها تحمل في طياتها رسالة عميقة للقارئ حتى يبصر كنه مغزاها وبُعْد معناها الذي يتماهى مع تجرية الظنحاني الثقافية بكل ما تحمله من معنى، كما تعكس في الوقت نفسه اختياراته بوصفه شاعراً مرهف الإحساس؛ فـ«ذاكرة الصبا» مزدحمة بالذكريات والصور والحكايات التي تحيل إلى مرحلة زمنية أو عمرية في حياة الشاعر، كما في عمر الدولة والوطن الذي يسكن أعماقه.
وتحدد اختيارات الظنحاني الواعية معالم رؤيته الثقافية وأنارت جوانب مهمة من قراءاته العميقة التي تمظهرت في الكتاب بحلى بهية وصور نقية، ما يكسب تجربته بعداً مهماً وملهماً في الوقت نفسه يعكس مستوى جديداً في تجربته، والتعريف به ككاتب مخضرم ونقيب يفتش عن العلامات بالكلمات الحانية، الشافية، الوافية، التي ترسم خيوط الأمل في وطن الخلود ومجتمع السعادة بعد أسفار جاب فيها الكثير من القفار والأمصار. أفرد الظنحاني مساحة كبيرة في كتابه للاحتفاء بدولة الإمارات العربية المتحدة، صانعة الأمل والمستقبل، وما حققته من إنجازات ومكتسبات في مجالات الحياة كافة، متوقفاً عند محطات مشرقة في تاريخ الدولة الحديثة، ودورها في تصدير الصورة اللاّئقة والمشرّفة للعالم، منها مسبار الأمل، والتنمية الشاملة، والمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوأها المرأة في المجتمع والدولة في الإمارات، والصّف المتَّحد، والبناء القوي والصرح الشامخ المحصّن ضد الغلو والتطرّف والإرهاب. كل ذلك جعل الإمارات، بفضل جهود الباني المؤسس المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ظلاً وارفاً للعمل والعطاء والتنمية الشاملة، وأنموذجاً فريداً يحتذى به في صناعة الإنسان الناجح، والمواطن الصالح، والاقتصاد النامي، والبنى التحية المتطورة التي جعلت الإمارات وجهة سياحية واقتصادية وثقافية رائدة، وهذا ما يستشفّ في مواضع كثيرة من «أول منزل».
ويمثّل التراث عنصراً ملهماً في تجربة الظنحاني، وذلك ما يتجلى بوضوح في مختلف الموضوعات التي استعرضها في كتابه، حيث يبدو التعلّق بالمكان الإماراتي، موطن الشباب ومرتع الصبا، وما يبعثه في نفس المؤلف من شوق وحنين إلى زمن انقضت أيامه ومازالت ذكرياته وأشجانه تخامره أينما حلّ وارتحل. كما تجد المفردة التراثية مساحة واسعة في العرض والتوظيف، بوصفها المعبّرة عن الهوية الثقافية والخصوصية المحلية، وهذا ما يدفعه إلى الدعوة بالتمسّك بالتراث وقيمه الأصيلة، وعدم الانجراف خلف سيل العولمة الجارف والتكنولوجيا التي غزت الأسواق والبيوت، دون أن يعني ذلك، بحال من الأحوال، الانعزال والتقوقع، بل الموازنة بين المحافظة على التراث وروح العصر.
ويعدّ ارتياد الآفاق وتدوين المشاهدات والانطباعات والمواقف وما تنطوي عليه الرحلة من مغامرات ومفاجآت تلفت انتباه الكاتب أثناء رحلته فناً أصيلاً وأدباً عريقاً، يعرف بأدب الرحلة، لما يختزنه من التشويق المفعم بالذهول والاندهاش من المشاهدات والمواقف التي يمر بها، لذلك أفرد الظنحاني باباً للحديث عن أسفاره والعوالم التي ارتادها والمدن التي زارها وما أثارته في نفسه من أحاسيس ومشاعر، حيث جاب في رحلاته الثقافية العديد من دول العالم الغربي والعربي، ومدنه الساحرة الآسرة بجمالها الفتّان؛ في ألمانيا، وقبرص، وتونس، والمغرب، وهولندا، والأردن، والتشيك.
يحتفي الظنحاني في هذا الكتاب بمسقط رأسه وموطن شبابه ومرتع صباه.