«هيريتك سبيسيز».. حفلة فنية تنكرية

تدخلك لوحات الفنان التونسي، ثامر الماجري، في عالم التناقضات المفتوح على احتمالات كثيرة، فتجد نفسك في متاهة أو ما يشبه الضياع، فداخل اللوحة الواحدة تجد الكثير من العناوين المتضادة والخطوط التي تسير في كل الاتجاهات، ما يجعل حالة البناء التي تمت بها اللوحة واضحة للمشاهد ومتجددة في الوقت عينه، يسعى الفنان في معرضه، الذي افتتح أخيراً، بغاليري المرسى في دبي، بعنوان «هيريتك سبيسيز»، إلى تقديم ممارسة فنية تحمل الكثير من أشكال الفوضى، إذ تبدو كما لو أنها حفلة فنية تنكرية، وتقدم الصورة والضوء واللون والخطوط وفق نمط يتسم بالحيوية.

يستخدم الماجري في لوحاته الألوان الفاتحة، فيسيطر الأزرق على خلفية اللوحة، ولكن هذا الأزرق المشع بالأمل تحتله مشاهد تحمل الكثير من الواقع القاتم وضبابية المرحلة التي لا تبشر بمستقبل مشرق. يوزع خطوطه على اللوحة بضربات متسارعة ومكتظة، فنجدها ترسم عبر الخطوط الحادة تفاصيل مأخوذة من بشاعة الحروب، فتحضر آلات العنف والقتل، الدبابات والبنادق، والمطارق، كما أن هناك أجساداً تتطاير كأنها خسرت مفهوم الجاذبية وأشكالها الحقيقية، لتبدو كأنها تولد من رمادها من جديد، هذه التفاصيل تجعل اللوحة أشبه بساحة صغيرة لكنها مسكونة بالتناقضات التي تحتم على المرء الاختيار بين الطرق المطروحة.

رموز ودلالات

حملت الأعمال التي قدمها الفنان ثامر الماجري، في معرضه الذي يستمر حتى 19 أكتوبر، مجموعة من المفردات والرموز التي تسهم في زيادة اللغة البصرية المعقدة التي يقدمها الماجري، فيبدو العمل أشبه بحفلة تنكرية، إذ يختلط به الكثير من العوالم المتجددة والمتشابكة والمتناقضة. ومن هذه الرموز الأساسية في الأعمال، وجود الحذاء إلى جانب الدبابة والسكين والمطرقة، والبنادق، وغيرها من العناصر التي يرسمها وفق أشكال هندسية، ويتركها ذات دلالات تحمل الكثير من علامات الاستفهام. هذه المدلولات تشير إلى الجريمة الحاصلة على المجتمع، وتجعل المتلقي ينظر إلى نفسه ومصيره، وإلى البحث عن الخلاص من كل الوحشية التي باتت تسيطر على الإنسانية.

اللوحات التي يقدمها الماجري تمثل المدن، فهي أشبه بجدران امتلأت بالكتابة، وحملت الكثير من شغب الناس وشعاراتهم، لكن تلك المدن تسكننا قبل أن نسكنها، وتحتلها الأوجاع. أما المَشَاهد التي يعرضها فليست إلا مشاهد لما بعد الكارثة، بحيث باتت الأجساد منهكة ومتعبة، ما يجعل اللوحة مخلصة لواقعها ولمن يشاهدها، فيشعر أمامها المتلقي كأنه جزء من أحداثها، لأنها نابعة من صميم وجوده، ومن لحظات تاريخية قد عايشها.

هذا العمق، الذي يجسده الفنان بشكل من العبثية في وضع الرموز والشخوص في اللوحة، يجعل اللوحات تبدو كما لو أنها مسرحية تراجيدية، تحمل المتلقي إلى عوالم الأشرار، لتؤكد أن الأمل في انتصار الخير على الشر لا ينتفي ولا يمكن أن يغيب.

عن ثيمة المعرض، قال الفنان ثامر الماجري لـ«الإمارات اليوم»: «أحببت أن يكون المعرض مرآة لمشروع المجتمع العربي الذي نعيش فيه، ولاسيما في هذه الفترة التاريخية التي نمرّ بها، فالاكتظاظ في اللوحة، والحيرة، وكل ما فيها من تفاصيل، توضح أنه ليس هناك من مجتمع عربي يسير نحو التطور، فالأفكار مشتتة، والتوجهات أيضاً، حتى طريقة العيش فيها الكثير من الازدحام»، ولفت إلى أن الفنان يهضم كل ما يحدث معه في الحياة، ويستلهم من أحداثها، فهو يقدم ما هو قريب من الناس مع الاعتماد على المدارس في الرسم والتشكيل، فهناك في اللوحات ما هو مشع ومليء بالحياة، فهي طريقة تجعل المتفرج دائماً في تضارب، فيخرج من منطقة الراحة إلى منطقة تعطيه رسالة مناقضة، كي نقول إن العنف والحرب باتا مجرد تجارة، والحرب باتت جميلة في نظر من يدخلونها.

الماجري يؤكد أن اللوحة لديه غنية بالتفاصيل، فهو يبدأ بالعمل على المجموعة خلال فترة واحدة، ويسعى إلى اختبار ما لم يختبره في المجموعات السابقة، فالعمل في اللوحة الواحدة يستغرق الشهر، وبالتالي يترك اللوحة ويعود إليها، ويعيش صراعاً معها، ما يستنزف منه الكثير من الطاقة، لاسيما أنه يبني هذه العلاقة على نحو يومي. ويضيف أنه عمل على المجتمع وتركيبته الذكورية بشكل كبير، قبل الثورة، لكن بعد الأحداث في تونس تبدلت الموضوعات التي تحتل الأولوية في حياة الناس، فبات كل ما يهم الناس سياسي المنحى، وهذا كان بهدف إظهار نتائج الحرب وما حولها. وحول قدرة اللوحة على خوض السجال السياسي، لفت إلى أن الفنان يتحمل أكثر من طاقته غالباً، فهو يحاول أن يعبر عما يشعر به كفرد، مشيراً إلى أنه لا يسعى إلى إبراز الشق السياسي أو حلّ المشكلات، بل إلى التعبير لترك أثر ما للأجيال المقبلة، منوهاً بأنه يرى هذا التعبير مسؤولية محتومة عليه كفنان، إذ لابد من الثورة على الموروث، والتحلي بالشجاعة لتحدي كل ظاهرة سلبية في المجتمع.

الأكثر مشاركة