أمين معلوف يطلّ من «مقعد على ضفاف السين»
من دهشة إلى أخرى.. يتنقل المبدع أمين معلوف، سارداً حكايا مَن جلسوا على المقعد الـ29 في الأكاديمية الفرنسية، ليعيد اكتشاف «أسلافه» من العباقرة المنسيين، وكذلك من حازوا المكانة والدرجة الرفيعة تحت قبة تلك الأكاديمية العريقة بمواهب أخرى، بعيدة عن دروب الكلمة الجميلة والقيمة العلمية. يختصر صاحب «ليون الإفريقي» و«الهويات القاتلة» أربعة قرون من تاريخ فرنسا، يطلّ على قصص أصحاب مقعده في «الأكاديمية» وأربعة قرون من تاريخ فرنسا، تبدأ من عام 1634، لتصل إلى اللحظة الراهنة، أو ما قبلها بقليل، وذلك في كتابه الذي رأت نسخته العربية النور حديثاً «مقعد على ضفاف السين»، الذي ترجمته نهلة بيضون، وصدر عن دار الفارابي في 325 صفحة.
محب الحضارات الهشة يختتم أمين معلوف الحكاية مع كلود ليفي ستروس: «ذاك الذي كان يكن محبة للحضارات الهشة»، ودخل إلى الأكاديمية الفرنسية في عام 1974، مؤكداً في خطابه الأول على قيمة حضارات المنسيين، وكان ستروس من «الحكماء» أصحاب الرصانة والمواقف، ممن توجهت إليهم منظمة «اليونسكو» لكتابة نصوص تشكل رؤيتها للعالم، التي ترتكز على «لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام». اعتبر أنه من غير المقبول لأي حضارة أن تسحق أخرى: «لا تستحق أي حضارة - أي مجتمع، أية قصة، أية لغة، أي فن - أن تندثر، لا على ضفاف نهر الأمازون، ولا على ضفاف نهر السين». 18 شخصية يتنقل بينها المبدع اللبناني - الفرنسي أمين معلوف، الذي حاز جائزة الشيخ زايد للكتاب 2016 «شخصية العام الثقافية». 325 صفحة يقع فيها كتاب أمين معلوف، الذي ترجمته نهلة بيضون، وصدر عن دار الفارابي حديثاً. |
في شهر يونيو عام 2011، انتخب المبدع اللبناني - الفرنسي أمين معلوف، عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ليشغل مقعد المفكر كلود ليفي ستروس، الذي رحل في عام 2009، ووفقاً للتقاليد، كان عليه أن يمتدح سلفه المباشر ومسيرته، في الخطاب الأول خلال لحظة الاستقبال، غير أن معلوف وجد نفسه مهتماً بقائمة طويلة تضم 18 شخصية جلست على ذلك المقعد بالتحديد، منذ تأسيس الأكاديمية، ومع أن خطاب البداية انساق لأعراف المكان وطقوسه، إلا أن معلوف عاد من جديد إلى أولئك الأسلاف، راوياً قصصهم المديدة، وتفاصيل حياتهم، بقلم من تنازعته رغبتان متناقضتان في البداية: المودة وردّ الاعتبار والبرّ بالوالدين، ومسؤولية المؤرخ المحايد، الذي يبحث عن الحقيقة ولا يرتعب من أحد، بل ويجرد البعض من هالات لا يستحقونها، بل اكتسبوها في لحظة ضعف ما، وما أكثر تلك اللحظات في مسيرة الإنسانية.
جنة الشغوف بالتاريخ
رحلة طويلة يقطعها - كالعادة - أمين معلوف في كتابه، الذي يشبه روايات مبدع «سمرقند» و«التائهون»، رحلة كلّفته أبحاثاً طويلة، وعكوفاً على مراجع بالمئات، في مكتبة المعهد الفرنسي، وفي قسم المخطوطات التابع لها: «المكان الذي يعدّ جنة حقيقية لشخص شغوف بالتاريخ» لم يمنعه الاقتراب من الـ70 عاماً، من الاشتغال بجد على عمله، والتنقيب عن 18 حياة حقيقية ثرية بالتفاصيل، وليس مجرد سرد لقصص عادية عن أناس غير عاديين: «جلس الواحد منهم تلو الآخر على المقعد الـ29، وعرفوا حقب العظمة أو الرعب، التشدد الديني أو عصر التنوير، والملاحم، وفترات الضياع، والهزائم. ثم رحلوا، بعد أن خلفوا أو لم يخلفوا وراءهم آثاراً، بينما كانت باريس وفرنسا وأوروبا والبشرية جمعاء تشهد تحوّلات بارزة. وتلك هي القصة المديدة التي شئت أن أسردها انطلاقاً من هذا المقعد الخشبي الذي أجلس فيه بدوري لبعض الوقت».
مع «الخالدين»
لم يهنأ بمقعده طويلاً في الأكاديمية الفرنسية بيار باردان، الذي يعدّ الأول في قائمة الشخصيات التي شغلت المقعد الـ29، إذ غرق الأديب، وهو يسعى جاهداً إلى إنقاذ تلميذه في نهر السين، وذلك بعد 14 شهراً فقط من الدخول إلى الأكاديمية، التي تضم 40 عضواً من «الخالدين»، كما يطلق عليهم.
الشخص الثاني الذي شغل المقعد كان نيكولا بوربون، وانضم للأكاديمية وهو في الـ63، ولأن أمين معلوف مهموم بكل شيء عن أسلافه، فإنه يسعى إلى رسم صورة كاملة لهم، وتحديد ملامحهم، ولذا يقول عن بوربون: «أما عضو الأكاديمية نفسه، فإننا نجهل ملامحه. والأوصاف النادرة التي تتوافر تتحدث عن مظهره بوجيز العبارة. ويقول أحد الذين عرفوه حق المعرفة: (كان رجلاً مديد القامة نحيف البدن).. ويقول الأصدقاء الذين عرفوه عن كثب إنه (كان يعاني أرقاً شبه متواصل). فأقل شيء يحرمه من نعمة الكرى، ولابد من دعوته إلى العشاء في اليوم نفسه، فلو وجهت له الدعوة قبل موعدها بليلة، لا يغمض له جفن. ولقد أصبح الأمر لديه عاهة وعذاباً وهاجساً في كل لحظة. ولدى وفاته نظم أحد معارفه شاهداً لقبره جعله يتنهد فيه بارتياح: أخيراً، أذوق طعم الرقاد!».
الشخصية الثالثة التي جلست على المقعد كانت محامياً مفوهاً، في الـ23 من العمر، وهو فرانسوا هنري سالمون دو فيرلاد، وانتخاب ذلك الرجل، الذي لم يكن قد كتب شيئاً وظل في مقعده 25 عاماً، أثار الجدل حول عضوية الأكاديمية، ومقاييس الاختيار الذي كان بإيعاز هذه المرة من الحاشية.
تحوّلات.. ودراما
فيليب كينو، كان رابع الجالسين على المقعد ذاته، وعرف النجاح مبكراً، رغم أنه كان ابن خبّاز مارس صنعته قرب قصر اللوفر، إذ حظيت مسرحياته وهو في الـ18 من العمر بشهرة، ولم يتم الـ30 عاماً حتى عُرضت له 15 مسرحية أمام جمهور متحمّس، كما يذكر أمين معلوف في كتابه، مشيراً إلى أن «كينو اللطيف» - كما كان يلقب - لم يحظ بإجماع أعضاء الأكاديمية، بل ونال سخرية من البعض ممن رأوه يمثل نوعاً من الأدب الرخيص «يؤثره الجمهور، ولكنه يفتقر إلى قيمة حقيقية».
ولم تخلُ حياة كينو هو الآخر من دراما وتحوّلات، إذ «قرر العدول نهائياً عن المسرح والأوبرا بين عشية وضحاها، لينصرف إلى حياة الصلاة والتأمل»، وذلك حتى وفاته في عام 1688، ليحلّ على مقعده في الأكاديمية فرانسوا دو كاليير، الذي انتخب «لأسباب سيئة.. على إثر مديح عاطر أهداه إلى لويس الرابع عشر».
ورغم ذلك، لا يجرد معلوف كاليير من كل فضل، بل يتذكر «جواز سفره الحقيقي نحو الخلود»، وهو كتاب عن فن التفاوض حظي بشهرة كبيرة، حتى إنه يعدّ مرجعاً للدبلوماسيين وأهل السياسة.
وعلى النقيض تأتي سيرة جوزيف ميشو، الذي حُكم عليه بالإعدام مرتين، إذ استهوته الأفكار الثورية، و«كان معجباً بالفلاسفة وعاشقاً للحرية، ومناهضاً لكل أشكال القمع، وسيعيش لفترة طويلة هارباً ومنبوذاً، في ظل حكومات مختلفة، قبل أن يحظى بالتقدير والتكريم» قبل رحيله في عام 1839.
وبقفزة كبيرة إلى القرن الـ20، نجد دراما جديدة تتعلق بواحد ممن جلسوا على المقعد الـ29، وهو هنري دو مونترلان، الذي مات منتحراً، بعد أن التهم عبوة من الزرنيخ، وأطلق رصاصة على حنجرته، خشية أن يكون السم قد فسد، وترك رسالة في عام 1972 لمن سيكتشفون جثته يرجوهم فيها أن يتحققوا من وفاته قبل حرق جثته، وأوصى أن ينثر رماده في العاصمة الإيطالية في المنتدى الروماني الأثري.