تأبى الأيام الأخيرة من 2017 أن تطوي دفاتر أحزان العام، لتسجل غياب صاحب قلم، وشاهد على قضايا العصر الساخنة، دفع ثمن كلماته ومواقفه مبكراً، حتى وإن آثر فض الاشتباك بعد ذلك، كما يرى البعض.. إنه الكاتب صلاح عيسى الذي ودعته مصر، أول من أمس، بعد مسيرة 78 عاماً، شهدت الكثير في عمر وطن «فيه من الجمال والجلال»، وكذلك في عمر صاحب «تباريح جريح». منذ صباه و«القلب أخضر لم يزل»؛ تعلّق عيسى بسِيَر الأحرار، انتمى لجيل وُلد «في دوامة الحرب العالمية الثانية، جاء المخاض أمهاتنا في ظلام الغارات الجوية. ولد بعضنا في المخابئ، واقترض آباء معظمنا ثمن الدجاج الذي تحتاجه الوالدة، وتكاليف إقامة احتفال متواضع بتشريفنا الحياة». تعلم كثيرون من أبناء ذلك الجيل، بفضل العظيم طه حسين، صاحب مقولة: «العلم كالماء والهواء».

ودخل هؤلاء المدارس، وتعلّقوا بعشق مصر ومحبتها، وحلموا بمستقبل أفضل، لا يشبه اليوم الذي اصطدموا فيه بنكسة 1967 وسواها من الانكسارات.

إلى التاريخ؛ ذهب صلاح عيسى، مسائلاً صفحاته الصفراء عن الداء والدواء، مستفتياً ابن إياس والمقريزي عن مكامن القوة والضعف والكبرياء والخلاص: «ولعل الهروب إلى الماضي - كأحلام المستقبل - نوع من النفي الاختياري كان لابد منه لكل جيلنا، ذلك أن العبثَ في طريِّ الجراح كان مؤلماً، وكان علينا أ نحمي أنفسنا من الانتحار ونحن نواجه نتيجة ما جنته أيدينا من آثام، فنحن - وليس غيرنا - مسؤولون عن وقوع مصر تحت أقدام الكلاب»، كما كتب «الراوي» صلاح عيسى في مقدمة كتابه «حكايات من دفتر الوطن» الذي داعبه مبكراً، واختار له اسماً مغايراً: «عذاب مصر»، وأراده أن «يكون رسالة من جيلنا لجيل يأتي بعده، يؤلمني - ويستفزني - أن معظمه يجهل آباءه، تفتح في عالم ينكر الماضي ويستدبره، ويشوّه كل رجاله، وأردته أن يكون أول كتاب تقرأه ابنتي عندما تستشرف عيونها الجميلة عالم الكلمة، فتجد به مرفأ أشواقها العليا، وطريقها إلى عالم النشوات الراقية».

قلم عفيّ

ارتحل صلاح عيسى إلى التاريخ، عاكفاً على الأوراق القديمة، من أزمنة الغزاة، ممن أرادوا تغييب العقل المصري، وتحطيم حيويته «وتبديد قدرته الخارقة على الابتكار والملاحة في البحار الصعبة، وكان أخطر ما فعلوه أن حولوا هذا العقل إلى عقل يعرف جيداً علامات التنصيص، ويجهل علامات الاستفهام والتعجب، عقل يفتقد إلى الحاسة النقدية التي تمكنه من تحطيم المحرمات التي تحول بينه وبين الثورة على واقعه وانتزاع مقدراته من أيدي الطغاة والغزاة».

بتلك الثورية، والقلم العفي، وروح المبدع، انطلق صلاح عيسى إلى التاريخ، يقلب صفحاته، ويسائلها، يتطرق مثلاً إلى حكاية عجيبة، عما يبدوان عاشقين، في نهاية العصر المملوكي، واتهامهما بالفاحشة، وعبث الأحكام والفتاوى التي كانت تحاول إنقاذهما من مصير الرجم، وليس ببعيد عن ذلك عبث السلطان حينها الذي تدخل لغاية في نفسه، ووجد في القصة مآرب أخرى.

ومن العصر المملوكي، ينتقل عيسى إلى محطات تاريخية أخرى مفصلية: الحملة الفرنسية على مصر والثائر سليمان الحلبي، والثورة العرابية وإجهاضها، وحادثة دنشواي وما كان من أمر جلادها، وكذلك قصص عديدة تبرز في سرد صلاح عيسى بأكثر من وجه، وليس كما وردت في التاريخ بوجه وحيد.

تلك كانت حال قلم صلاح عيسى دوماً، إذ يبحث عن المغاير في القصص والأمكنة والشخصيات التي يتناولها، يأتي دوماً بالجديد، أو حتى الوجهة المختلفة عنها، ويتجلى ذلك أيضاً في كتابه «شخصيات لها العجب»، الذي يكشف عن جوانب خفية لوجوه كان معظمها ذا تأثير في التاريخ المصري المعاصر. وحالة العجب لها أكثر من وجه في الكتاب، فقد تبعثها شخصيات رمادية مثيرة للجدل، وأخرى بيضاء لم تَحِد عن مبادئها، وثالثة اتسمت حياتها بالتحولات الدرامية، فانتقلت من حيز إلى آخر، من الأضواء إلى العتمة، أو من موقع السجان إلى السجين، أو من الاعتدال إلى التطرف. رسم الراحل بورتريهات شخصيات تفاجئ المتلقي بإطلالات مخالفة للمتعارف عليه، فالملك فاروق ليس ملك مصر والسودان والقمار والخمر و«النسوان»، كما أشاعت عنه ذلك، وأكثر، الدعاية «السوداء»، إذ وجدت في المقابل شهادات تنتصر له، وتراه حاكماً غيوراً، صاحب مشروع لإعادة بناء الجيش، كي يمحو «إسرائيل» من خريطة الوجود.

تفاصيل إنسانية

لا يخلو كتاب «شخصيات لها العجب»، من شخصية المؤلف، وتفاصيل إنسانية من حياة صلاح عيسى، ومنها ذلك المشهد المؤثر الذي جمعه بوالده، بعد خروجه من السجن في زمن المشاغبات القديم. ويسرده صلاح عيسى: «مازلت أذكر أن جلستنا الطويلة عقب استردادي حريتي، بدأت بالفرح، وانتهت بالدموع، هنأني بالإفراج، وعزاني عن الفصل من عملي، ودسّ في جيبي جنيهات أستعين بها على تسيير أموري، ثم تمنى عليّ أن أكف عما أفعله، ولم يكن يعرفه بالضبط، وأن أبتعد عن الطريق الخطر الذي أسير فيه، فأنا ابنه الوحيد الفالح الذي يعلق عليه الآمال في شيخوخته، ويدخره لسنوات يعجز فيها عن العمل، وربما عن الحركة، وكنت أطمئنه إلى أنه لا شيء هناك، وأن الحكاية كلها سوء فهم، دون أن أتورط في وعد لم أكن أريد أن أقيد نفسي به». ويضيف عيسى عن ذلك المشهد، والوعد الذي لم يكتمل: «لابد أن الرجل العجوز قد فهم بخبرته أنني على العكس مما أزعم، متورط بالفعل في شيء مما أنكره، وأنني سأواصل هذا الطريق على الرغم من إنكاري، وأنني أضحك على ذقنه، وأستهين بشيبته. وكان حرصه علي ورغبته في حمايتي هما اللذان دفعاه في نهاية المناقشة الطويلة، التي اكتشفت خلالها أنني أراوغه إلى شيء بدا لي غريباً ومذهلاً، فإذا به ينحني على يدي ويقبلها، وهو يقول لي: (وحياة النبي تبعد عن السكة دي.. مش عايز أموت وانت مسجون). ولم يكن قد فعل شيئاً من ذلك مع أحد من قبل، إذ كان دائماً وقوراً جليلاً محترماً مع زملائه وأصدقائه وجيرانه، ويتميز بأنفة وكبرياء واعتزاز بذاته يغلفه بمسحة من التهذيب في التعامل مع الآخرين تزيد من مكانته في قلوبهم، لحظتها بكيت، وانحنيت على يده أقبلها واحتضنته».

محمد إسماعيل

mismail@ey.ae