دبي تجدّد سيرة «عالِم من دمنا»
عالم من دمنا، وواحد منا، يستعيد إنجازاته، ويجدد سيرته «متحف نوبل» بدبي، الذي يحتفي برائد عربي فتح فرعاً جديداً في «الزمن»، وأتاح للبشرية رؤية التفاعلات الكيميائية عبر اكتشافه «الفيمتوثانية» والليزر الفائق السرعة.. الدكتور أحمد زويل، صاحب المسيرة الحافلة بالعلم والتكريمات.
في لمسة وفاء واعتزاز بعالم عربي في الآن ذاته، تزيّن صورة زويل، ابن مدينة دسوق المصرية، بوابة «متحف نوبل» في وجهة سيتي ووك بدبي، معلية من شأن الراحل الذي نقش اسمه بين الخالدين، والعباقرة من حملة «نوبل»، إذ حاز زويل الجائزة عام 1999، والتي علم بحصوله عليها تحديداً في «الساعة الخامسة والنصف من صباح الثاني عشر من أكتوبر بتوقيت كاليفورنيا»، حينما جاءه اتصال من السكرتير العام للأكاديمية السويدية، لتتغير بعدها حياة رجل المختبرات، وليتحول إلى شخصية شهيرة حول العالم، فلحظات الإعلان كانت هي آخر 20 دقيقة هادئة في حياته، إذ تلقى أكثر من 5000 رسالة عبر البريدين العادي والإلكتروني، بعد نبأ الفوز بالجائزة.
في حفل تسلم «نوبل» لم ينسَ زويل «أجداده»، إذ أشار في كلمته إلى علماء مصر القديمة، من زمن مكتبة الإسكندرية، وكذلك العلماء العرب، وعلى رأسهم ابن سينا وابن رشد وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم، وسواهم ممن كانوا جديرين بجوائز نوبل، لو وجدت في عصورهم، بل واختتم الكلمة بمقولة لعميد الأدب العربي طه حسين.
تحفل سيرة أحمد زويل الذي رحل في أغسطس 2016 بالكثير من المحطات، لتجمع بين الخاص والعام، بين التجربة الذاتية، وكذلك الرؤية الشخصية للعالم، وما يحمله المستقبل من جديد للناجحين والخاملين، كأن السيرة تحريض على المعرفة، ومحاولة لإبراز درب يراه صاحبه طوق النجاة للحاق بالعصر، وليس التخلف عنه.
ميلاد قصة زويل، كان في مثل هذا الشهر (26 فبراير 1946) بمدينة ذات قيمة، وهي دسوق التي يوجد في وسطها مسجد إبراهيم الدسوقي، أحد كبار المتصوفة، وكان بيت زويل على بعد أمتار من المسجد، والتحق الصبي بمدرسة حكومية، وأحرز تفوقاً لافتاً رغم المقررات الدراسية التي كان يتحفظ على بعضها، إذ استهواه التحليل وليس الحفظ أو التلقين، انشغل بمفاتيح الأسئلة، وفي المقدمة: لماذا؟ وكيف؟ ويروي زويل أنه في سن مبكرة، وهو في العاشرة تحديداً، أرسل خطاباً إلى رئيس الجمهورية حينها جمال عبدالناصر، وفي 11 يناير 1956 أتاه الرد، بسطور معبّرة.. وكأنها كانت تستشرف ما ينتظر ذلك الصبي من نبوغ، ومستقبل مشرق: «ولدي العزيز أحمد.. تحية أبوية وبعد.. تلقيت رسالتك الرقيقة المعبرة عن شعورك النبيل فكان لها أجمل الأثر في نفسي وأدعو الله أن يحفظكم لتكونوا عدة الوطن في مستقبله الزاهر وأوصيكم بالمثابرة على تحصيل العلم مسلحين بالأخلاق الكريمة، لتساهموا في بناء مصر الخالدة في ظل الحرية والمجد. والله أكبر والعزة لمصر».
صوت «الست»
1999العام الذي حصل فيه أحمد زويل على جائزة نوبل في الكيمياء. مدن.. ورؤى يخصص أحمد زويل الجزء الأول من «عصر العلم» للسيرة الذاتية بكل تفاصيلها الإنسانية والعلمية، ويتنقل بالقارئ بين دسوق ودمنهور والإسكندرية وكاليفورنيا، ومدن أخرى احتفت بزويل، وقدمت له جوائز وتكريمات. بينما في الجزء الثاني تبرز كلمات زويل العلمية ومحاضرات ألقاها في بقاع مختلفة، تلخص رؤاه، ووصفة الدخول في عصر العلم، كما تراها تجربة عالم من حملة «نوبل» ارتبط بجذوره العربية. |
محطة خاصة أخرى، وزعامة من نوع مختلف استولت على وجدان زويل منذ طفولته، وهو صوت السيدة أم كلثوم، إذ تعلق بأغانيها مبكراً، ربما بتأثير من الخال (رزق) الذي كان يصحب ابن الأخت إلى حفلات «كوكب الشرق» التي ظلت تدخل البهجة إلى نفس زويل، يجاور المذياع ويقلب بين محطاته ليعثر على صوتها.
يقول زويل في سيرته: «منذ أربعين عاماً وأنا أستمع وأستمتع بصوت أم كلثوم، وقد أسهمت في التأثير على وجداني وأحاسيسي طوال هذه الفترة، ولديّ في مكتبي بكالتك جهاز تسجيل أستمع من خلاله لأغانيها وأضع صورتها على مكتبي بجوار صور زوجتي وأولادي، وحتى في الأوقات التي أكون فيها مثقلاً بالعمل، وفي وجود أربع سكرتيرات وفاكسات وبريد إلكتروني مع العالم كله... وسط كل ذلك أستمع إلى أم كلثوم وأسترخي على خلفية من صوتها الهادئ، ويكفي أن أسمع أغنية يا مسهرني تلحين الموهوب سيد مكاوي... وفي واقع الأمر، فإن الخلفية الموسيقية لأغاني أم كلثوم لم تشتت أو تصرف فكري عن العلم والإنتاج، بل على النقيض من ذلك فإن هذه الخلفية تساعدني على الاستمرار في عملي لساعات عديدة، وأنا في قمة السعادة والابتهاج».
لم يفارق الشغف بصوت «السيدة» أحمد زويل، حتى إنه حينما حط رحاله في أميركا، اشترى مسجلاً بالتقسيط من دار بيع الكتب في الجامعة حتى يتمكن من سماع صوت أم كلثوم.
الدكتور أحمد
تعلّق زويل منذ صباه بالعلم والتحليل، وفي مرحلة الدراسة الإعدادية، علّق على باب غرفته لافتة: «الدكتور أحمد»، وفي «الثانوية» أحرز الدرجات النهائية في المواد العلمية، بينما لم تكن كذلك بالمواد الأخرى، فدخل زويل كلية العلوم بجامعة الإسكندرية، وكانت أول زيارة لها في صيف 1963، مع الخال كذلك، وبكى حينها ذلك الشاب دموع الفرح، حينما رأى «حرم العلم والعلماء والذي تنطلق منه إبداعات العقول في مجالات العلوم والفنون بأنواعها المختلفة».
حاز الشاب زويل بكالوريس العلوم بدرجة الامتيار مع مرتبة الشرف، وكان ترتيبه الأول على الدفعة، وكانت هدية النجاح من الخال اصطحاب الخريج المتفوق إلى غداء بمطعم سكندري شهير، وكذلك حضور حفلة لأم كلثوم.
عُين زويل معيداً بالجامعة، وبرع في دراساته العليا، وكذلك في تبسيط العلوم، وعرضها بشكل سلس أمام الطلبة، وأجرى مبكراً أبحاثاً بعلم الطيف، ورغم أن الحد الأدنى للانتهاء من دراسة الماجستير كان عامين، إلا أنه أنجز بحثه في تسعة أشهر فقط، لتأتي مرحلة التطلع إلى منحة، واستكمال الدراسة في الخارج، بالولايات المتحدة بشكل خاص، ففيها أفضل الأبحاث بمجال تخصص الشاب الطموح.
أرض الفرص
في عام 1969، تقدم زويل بطلبات إلى ثلاث جامعات (يوتا وبنسلفانيا وفلوريدا)، وفي الثاني من أبريل في العام نفسه تسلّم خطاباً من جامعة بنسلفانيا، غير أنه اصطدم بالبيروقراطية، فالخطاب ينبغي أن يوجّه إلى الجامعة التي بدورها ترشح من تراه مناسباً، وليس بالضرورة أن يكون زويل، إلا أنه استطاع بمثابرة أن يتغلب على الأزمة، إذ خاطب الجامعة (بنسلفانيا) مجدداً، وذلل العقبة.
قبيل رحيله إلى «أرض الفرص»؛ تزوج زويل، وقضى شهر العسل ثلاث ليالٍ فحسب، ليسافر مع الدكتورة ميرفت التي أنجب منها ابنتين، إلى الولايات المتحدة. ولا يخفي زويل التفاصيل الإنسانية المتعلقة بكثير من مناحي الحياة ودقائقها: الأزمات المالية، والمبالغ المتواضعة التي كانت بحوزته، وكذلك لغته الإنجليزية المهشمة نظراً لغياب المحادثة، والفوارق الحضارية والانبهار بالمختبرات العلمية، والمشكلات والنقاشات وما تعرّض له من نظرات عنصرية، مثل غيره من القادمين من الشرق، وتحديداً من منطقة حافلة بالأزمات.
تفاصيل
تفاصيل بالجملة يبوح بها أحمد زويل في السيرة، بعيداً عن هالات التكريمات، يصف مظهره الأكاديمي الملتزم بالزي الرسمي ورابطة العنق، بينما من حوله يستغربون ذلك، مسائلين إياه عما إذا كان لديه موعد رسمي مع عميد الجامعة، وكذلك فراق الزوجة الأولى بعد إنجاب بنتين، والارتباط بأخرى بعد 10 سنوات من العزوبية، كانت الزوجة فيها الأبحاث العلمية التي غرق فيها زويل.
بعد الانتهاء من الدكتوراه والحصول عليها من جامعة بنسلفانيا (1973)، لم يفكر أحمد زويل في العودة إلى مصر، بل عزم على استكمال طريقه، وحصل على منحة ما بعد الدكتوراه، وكتب إلى خمس جامعات في نواحٍ عدة من العالم، وقبلته جميعها، إلا أنه اختار البقاء في أميركا بجامعة بيركلي بكاليفورنيا، وبعدها عمل في كالتك، ليشق من مختبرها طريقه إلى «نوبل»، الحافل بالمسارات التي يفصلها زويل في سيرته الشائقة، التي أعدها الكاتب والإعلامي أحمد المسلماني.