تروي طرفاً من مأساة بلد آسيوي
كيم إكلين تفتح سيرة «المفقود»
على جرح عميق، يحتاج إلى أعمار كي يندمل، تضغط الروائية، كيم إكلين، لتفتح سيرة إبادة جماعية، وترتحل من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، لتحكي طرفاً من مأساة بلد آسيوي، مسجلة طرفاً من شهادات الأحياء الناجين، ومن كتبوا لافتات صغيرة، تحمل كلمتين: «لن ننسى»، وعلّقوها على جذوع الأشجار، ومدفوعة أيضاً بقصة سيدة صادفتها في سوق العاصمة الكمبودية بنوم بنه، فقدت كل أفراد عائلتها في ذلك الزمن، وعندما سألتها المؤلفة الكندية: «هل يمكنني المساعدة؟ ماذا في وسعي أن أفعل؟ كان جوابها: لا شيء، فقط أردتك أن تعرفي».
وجدت كيم في السرد سبيلاً للمساعدة، فكتبت روايتها «المفقود» وأهدتها إلى سيدة السوق، التي أرادت ألا تموت الحقيقة، وألا تُنسى حكاية عائلتها، وعائلات أخرى بالجملة، في ذلك البلد الذي يقال إن ضحايا الإبادة في السنوات السوداء قد يصلون إلى مليونين، أحياء كاملة وأسر بصغارها وكبارها قتلت خلال حكم بول بوت (1975 - 1979)، مقابر جماعية لم تسلم منها حتى آبار المنازل التي امتلأت بالجثث في تلك الأيام التعيسة، التي رفعت شعار: «من الأفضل قتل البريء على ترك خائن حياً».
سبيل للراحة
«المفقود» التي ترجمتها السورية أماني لازار؛ رواية تبحث عن سبيل لراحة الأحياء والموتى معاً، ترى أن أقل حقوق الطرفين بعد المأساة أن يعرف ناجٍ ما أين ترقد عظام أفراد أسرته، وفي أي قاع نهر، أو مقبرة جماعية، تستقر جمجمة أمّ أو أب أو أخ أو ابن، فقد يستطيع أن يكرم أرواح هؤلاء الموتى، وأن يحضر كاهناً ما لتلاوة الصلوات عليها، وإيقاد بعض الشموع والبخور لها.
مع حكاية حب غير عادية، تنطلق «المفقود»، التي صدرت ترجمتها العربية عن «دار ممدوح عدوان»، تحكي عن فتاة متمردة (آن جريفر) تقع في غرام فنان كمبودي (سيري)، منفي رغماً عنه في كندا، تصوّر الرواية أمسيات العاشقَين، وتفصل مأساة الفنان الذي أغلقت حدود بلاده، وانقطعت كل أخبار عائلته، فلا خطوط هاتف، ولا بريد، ولا سبيل للاطمئنان على الأهل، وفي لحظة ما تأتي الانفراجة، وتفتح الحدود ليغادر الفنان باحثاً عن أسرته، تاركاً حبيبة لن تنساه، وتلجأ إلى ما يبقيها مع ذكرياتها: «درست الخميرية سراً كل يوم، لغة الحب، درّبت لساني على لغة طفولتك، احتضنتك مع كل كلمة جديدة، كانت لمدرسي ساق خشبية، كان اسمه فيثو، ودفعت له من أجري الذي كسبته من بيع الزهور. تمكن من الهرب عبر الحدود في بداية الحرب، لكن ليس قبل أن يدوس على لغم أرضي، كان قد نضج مبكراً، ابناً لمزارع تعلم القراءة والكتابة في الدير. علمني مفردات وعلمني قواعد المحادثة. حاول أن يعلمني التواضع. قال: إذا أخبرك أحدهم أن تطبخي أو تتحدثي جيداً، يجب أن تقولي: لست كذلك، واخفضي عينيك. في كمبوديا المرأة الفاضلة تتحرك دون أن تحدث صوتاً على الأرض».
فصول قاسية
بعد 11 عاماً، تاريخ الفراق، تطالع الشابة الكندية مشهداً في الأخبار عن كمبوديا، تتخيل أنها رأت بين الجموع وجه الحبيب القديم، ولذا تسافر إلى العاصمة الكمبودية رغبة في العثور على ذلك «المفقود» لتتعرف إلى وجوه المأساة عن قرب، إلى من تركتهم الإبادة وحيدين في هذا العالم، إلى آلاف من مبتوري الأطراف، ومشوهي الوجوه، وضحايا الألغام الأرضية، والباحثين عن عظام الأحبة الذين اغتيلوا في زمن الحرب (السنة التي أطلقوا عليها السنة صفر، والتي ظلت آثارها القاسية باقية)، ليكون السؤال الأول حينما يصادف أحد ما شخصاً من جيرانه القدامي: هل بقي أحد حياً من أفراد عائلتك؟ تنبّه رواية «المفقود» بشكل ما إلى أن زمن المأساة لا ينقطع بمجرد أن تضع الحرب أوزارها، وأن يسكت صوت الرصاص، ويتوقف شلال الدم، فثمة فصول قاسية تلي ذلك: رغبة عارمة في الانتقام بنفوس البعض، محاكمة المتسببين، البحث عن الحقيقة كي تبقى في الأذهان، وحلم العثور على مفقود أو ناجٍ منسيّ هنا أو هناك، بعيداً عن متحف أو معبد يضمّان آلاف الجماجم المختلطة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news