حِرفيات «إرثي».. إبداع تراثي من البيت
في ركن هادئ من منزلها في مدينة دبا الحصن الخلابة، التي تقع على بعد 130 كيلومتراً من وسط إمارة الشارقة، تجلس مريم محمد أحمد الظاهري، (31 عاماً)، منكبّة على عملها، تنسج بكرات من خيوط القطن ذات الألوان الزاهية، التي تتداخل فيها خيوط الخوصة المعدنية اللامعة بلوني الذهب والفضة.
وعلى الرغم من الأزمة الصحية التي يواجهها العالم اليوم مع تفشي فيروس «كورونا»، فإن ذلك لم يمنع مريم وزميلاتها الحرفيات في مركز بدوة للتنمية الاجتماعية، التابع لمجلس إرثي للحرف المعاصرة، من مواصلة العمل بحماسة، حتى بعد الإغلاق المؤقت للمركز، الواقع في مدينة دبا الحصن بالشارقة.
طريقة جديدة
مريم هي واحدة من بين 66 سيدة حِرفية يعملن يومياً على إنتاج الحِرف التقليدية والعالمية في مركز بدوة للتنمية الاجتماعية، قبل اتخاذ إجراءات التباعد الاجتماعي، انضمت اليوم هي وزميلاتها إلى 11 حِرفية كنّ يواصلن عملهن مع مركز «بدوة» في الأصل من المنزل.
في حين يتميز مركز «بدوة» بأجواء عائلية طيبة تتبادل فيها الحِرفيات الأخبار وتفاصيل حياتهنّ بحلوها ومرّها، تقضي مريم اليوم وقت العمل في جوّ من العزلة، وتتبع طريقة إبداعية جديدة لإنجاز مهامها من المنزل، فتخصيص مكان معين للعمل، وأوقات محددة، ساعدها على زيادة إنتاجيتها، حيث تقول مريم: «أعمل في الصباح عندما تكون أجواء المنزل هادئة، إذ يساعدني ذلك على التركيز بشكل أفضل، وزيادة وتيرة الإنتاج، واستثمار طاقاتي لتقديم عدد أكبر من قطع التلي».
وتعيش شيخة علي النقبي، التي تخرجت، أخيراً، في برنامج التبادل الحِرفي، الذي أطلقه «إرثي» لتدريب المشاركات على فنون التطريز الباكستاني، تجربة مماثلة، حيث تعمل في ركنها الهادئ يومياً من الساعة الثامنة صباحاً إلى الواحدة ظهراً، وتستريح لفترة قصيرة، لتعيد شحن طاقتها وتسترد نشاطها.
فيما اختارت علياء الظنحاني، العمل في فترة بعد الظهر لأنها الأكثر هدوءاً في منزلها، وتتحدث عن تجربتها قائلة: «على الرغم من تغيّر وتيرة عملنا، فإن ذلك لم يؤثر في الجودة فهي متأصلة فينا ونابعة من قلوبنا، وعندما أنتهي من تنفيذ التصميمات أنسى ما ألمّ بي من تعب وأشعر بالنشاط».
أما بشرى محمد عبدالرحمن، التي تعمل على قطعة من التطريز الباكستاني، فقد عزلت نفسها في غرفة منفصلة في المنزل للتركيز على عملها، وتقول: «أتواصل دائماً مع زميلاتي والمشرفات لأشعر وكأنني مازلت في مركز بدوة، ومازلنا نعمل معاً».
حِرفة تعود إلى المنزل
تقول مساعد مدير - التقييم والتصميم في مجلس إرثي، فرح نصري، إن «حِرفة (التلي) حِرفة تقليدية إماراتية أصيلة تحتفي بالثقافة الإماراتية، وكانت تمارسها السيدات الإماراتيات في منازلهنّ منذ قرون، وقد عادت الحِرفيات لممارستها اليوم من منازلهنّ، حتى وإن كانت بصورة مؤقتة».
تقول مديرة مركز «بدوة»، شريفة الظهوري: «بعد الاتفاق مع المصممين على التصاميم المراد إنتاجها، يتم توثيق التفاصيل بالبريد الإلكتروني، ثم تقوم مشرفات المركز بإعداد الكميات المطلوبة من المواد بقياسات محددة ،واختيار ألوان الخيوط التي يتم بعد ذلك وضعها بشكل فردي في أكياس معقمة تحمل ملصقاً باسم الحِرفية التي ستعمل عليه». وأضافت: «نرسل للحِرفيات مقاطع فيديو وإرشادات إضافية، من خلال مجموعة عبر تطبيق (واتس أب)، لضمان تنسيق وإدارة الإنتاج بصورة فاعلة، وبمجرد الانتهاء من المنتج يتولى فريق الإنتاج في مركز بدوة استلام المنتج النهائي وتوصيله إلى المركز».
وأشارت إلى أنه مع إلغاء أو تأجيل العديد من المعارض والفعاليات العالمية، التي كان سيشارك فيها «إرثي»، يعمل المجلس الآن على التعريف بالثقافة الإماراتية أمام المصممين الدوليين، من خلال إطلاق مشروعات (عن بُعد)، الأمر الذي «سيتيح الفرصة أمام المجلس للمضي قدماً في رسالته.
وقت الإبداع
بعد أن قامت منظمة «اليونسكو»، أخيراً، بإدراج الشارقة على قائمة شبكتها للمدن المبدعة، التي تضم 65 مدينة حول العالم، تواصل حرفيات مركز بدوة، التابع لمجلس «إرثي» هذه المسيرة الداعمة لروح الإبداع، من خلال ممارسة الحِرف الإماراتية التقليدية، والحفاظ عليها للأجيال المقبلة، واتباع ممارسات مبتكرة لتطوير مهارات جديدة، وتوسيع آفاق مواهبهنّ الفنية.
وتقوم حرفيات «بدوة» بهذه المهمة بطرق مختلفة، إذ تحرص علياء الظنحاني، على استثمار وقت فراغها في تلبية شغفها لفن الطهي، وتشجيع بناتها على تعلّم المأكولات التقليدية والحديثة، فيما تتابع زميلتها بشرى عبدالرحمن، على موقع «يوتيوب» مقاطع فيديو لتعلم غرز وتقنيات جديدة في اختيار الألوان وتنسيقها، وتعمل حالياً على وضع تصميم جديد يضم جميع الغرز التي تعلمتها سابقاً.
وتعتقد فرح نصري أن «المنزل هو المكان الوحيد الذي نمتلك فيه السيطرة الكاملة الآن، لذلك، فإنني أرى أن فترة العزل المنزلي هي الوقت المناسب للاستثمار في تنظيم المساحات من حولنا لجعلها أكثر هدوءاً وإلهاماً. فبعض التعديلات الصغيرة، مثل إضافة النباتات الخضراء والمنحوتات، أو وضع كرسي مميز أو شمعة معطرة، سيعمل على إضفاء الحياة والأجواء المريحة على هذا المكان، الذي أصبحنا نعمل ونعيش فيه».