«بيت الحكمة».. نموذج فريد لمكتبات المستقبل
على امتداد تاريخ طويل بذلت إمارة الشارقة جهداً كبيراً في إرساء دعائم الثقافة وجعل القراءة عادة يومية لدى جميع أفراد المجتمع، وها هي تستنهض موروث الأمة ومشروعها الثقافي والحضاري بإنشاء «بيت الحكمة» أحدث نموذج لمكتبات المستقبل في الإمارة، الصرح الذي يمزج في تصميمه بين جماليات العمارة العربية العريقة والهندسة المعاصرة.
وعلى مساحة 12 ألف متر مربع يستقبل الزائر المكان بتصميمه الزجاجي وبسقفه المعدني البارز والشاهق وبحدائقه المحيطة، التي تضم 331 شجرة ونوافير مائية، ليأخذك المكان في جولة استثنائية بين رفوف تضم أكثر من 300 ألف عنوان في مختلف الحقول والتخصصات، منها 11 بلغات مختلفة و105 آلاف كتاب ورقي ونحو 250 ألف كتاب إلكتروني.
وما إن يبدأ الزائر جولته حتى يجد نفسه أمام حديقة داخلية تشبه صندوقاً زجاجياً يضم نباتات ونوافير ماء توحي للزائر بأنه في جبال الشرق الآسيوي، وفي أكثر الأماكن هدوءاً وسكينة في العالم وليس بغريب أن تظهر هذه الحديقة التي تتوسط المكان مثل مصباح كبير، فهي ذات سقف مفتوح يسمح لأشعة الشمس بأن تضيء المكان كاملاً.
يروي المكان قصته بكامل تفاصيله إذ تظهر على مداخل الممرات والقاعات والغرف أسماء تبدو للوهلة الأولى مألوفة، لكنها تدعو للتساؤل، فما إن يقرأ الزائر «صالة ابن دريد» حتى يستحضر تاريخ العلوم والمعارف عبر العصور العربية والإسلامية، فمن هو ابن دريد، وكذلك وهو يقرأ لوحة تشير لـ«معرض الخورزمي».
وما إن يطالع الزائر التعريف بابن دريد ويقرأ أنه أحد أبرز شعراء وعلماء اللغة الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري، حتى يدرك أن «بيت الحكمة» يريد أن يقول لكل من يدخل إليه إن هذه المكتبة العصرية بشكلها المستقبلي الذي تتحرك فيه الروبوتات في الممرات تستند إلى ذاكرة وتاريخ ثقافة عميقة وكبيرة قدمتها الحضارية العربية للإنسانية جمعاء في مختلف حقول المعرفة والأدب والفن، فقاعاته وردهاته الـ15 تحمل كل منها اسم شاعر عربي قديم أو عالم من علماء الطب والرياضيات والكيمياء واللغة وغيرها.
هنا «مكتبة الجرهمي» التي سميت نسبة للشاعر مضاض الجرهمي، أحد أشهر شعراء العصر الجاهلي، و«معرض الخوارزمي» عالم الرياضيات والجغرافيا الفذ أبوعبدالله الخوارزمي، إلى جانب أقسام مخصصة للأطفال واليافعين.
الكثير من الزوّار الذين تابعوا أخبار «بيت الحكمة» أصابهم الفضول تجاه الطابعة التي يوفرها، ويمكن لأي قارئ أن يطبع كتابه ويغلفه خلال خمس دقائق، وهذا ما يمكن التعرف إليه عن قرب في «مختبر الجزري» الذي سمي نسبة إلى بديع الزمان الجزري أحد أهم المخترعين عبر التاريخ، فهذا المختبر لا يشتمل على هذه الطابعة وحسب وإنما يضم طابعات ثلاثية الأبعاد وقواطع ليزر وآلات تحكم رقمي تتيح أمام الطلبة والمشتغلين تصميم نماذج هندسية وروبوتات لإتمام أعمالهم واختبار تجاربهم.
قد يتساءل أحد القراء إنه إذن مكتبة وليس أكثر من ذلك، لكن الزائر يعرف أنه أكثر من مجرد مكتبة فكل أرفف الكتب التي تمتد من الأرض إلى سقف المكان وكل هذه القاعات العلمية ليست هي بيت الحكمة وحسب، وإنما هنالك مقهى ومطعم وخلوات للقراء وساحات للجلوس والاسترخاء وصالات للمعارض الفنية ومنصات للعروض المسرحية والفنية ومتجر، وحتى ساحات لألعاب الأطفال.
ربما يكون جميلاً أن يختتم الزائر جولته في «بيت الحكمة» بالجلوس في (شرفة المعرفة)، حيث يمكنه أن يطل على الفناء الخارجي للمكان الذي يضم أشجار الغاف والتين والنخيل، وينتظر غروب الشمس وهي تصبغ أشعتها على نصب «المخطوطة» التذكاري الذي بني احتفاء باختيار الشارقة عاصمة عالمية للكتاب لعام 2019 من قبل منظمة اليونسكو، ليترك «بيت الحكمة» لديه صوراً مشبعة بالجمال والدهشة تعكس مكانته كذاكرة جديدة للإمارة تشهد على منجزات الإمارة الثقافية، وتلهم الأجيال الجديدة، وتحفزهم على مواصلة نهج المعرفة.