خبراء: الاستدامة ضرورة لحفظ التاريخ وصون التراث العالمي
أكد خبراء أن الاستدامة تلعب دوراً كبيراً في مجال صون التراث وحفظ التاريخ والآثار من المخاطر العديدة التي تهددها، والتي زادت في السنوات الأخيرة في ظل التقلبات المناخية الحادة والصراعات والحروب التي يشهدها العالم في مناطق مختلفة منه. موضحين أن مفهوم الاستدامة وتطبيقاته لا يقتصر على مجال محدد، بل هو ثقافة عامة وممارسات حياتية تهدف إلى الحفاظ على الطبيعة وتوازن الحياة بشكل عام في أشكالها كافة.
ذاكرة الشعوب
واعتبر المدير التنفيذي للتحالف الدولي من أجل حماية التراث في مناطق النزاعات (ألف) فاليري فريلاند، في تصريحات لـ«الإمارات اليوم»، أن الاهتمام بالحفاظ على المواقع الأثرية والتراثية لا يعني الاهتمام بالمباني والأحجار، ولكنه حفاظ وحماية للتاريخ ولذاكرة الشعوب والعمل على نقلها للأجيال المقبلة، حيث يُعد تدمير هذه المواقع بمثابة تدمير للتاريخ الإنساني وذاكرة المجتمعات. في المقابل يأتي التعاون والتكاتف بين الأعضاء في «ألف» والمؤسسات الأخرى، والعمل المتواصل من أجل التنمية المستدامة، ليمثل الضوء الذي يشع في قلب الظلمة. لافتاً إلى أن التحالف الذي مرّ على تأسيسه ست سنوات، يعمل على دعم وتنفيذ 180 مشروعاً في 30 دولة، بعضها تمت تنفيذه، والبعض لايزال في طور التنفيذ.
صون التاريخ
وأوضح المستشار بمنظمة اليونسكو منير بوشناقي، لـ«الإمارات اليوم»، أن هناك العديد من الملفات المهمة التي تعاملت ولاتزال تتعامل معها «اليونسكو» في مجال حفظ التراث والمواقع التاريخية، لعل أهمها وأبرزها الحملة الدولية التي تم تنفيذها لإنقاذ التراث المصري في معبدي أبوسمبل وفيلة في ستينات القرن الماضي ونقل الآثار خوفاً من الغرق بعد بناء السد العالي، وترجع أهمية هذا الملف إلى أنه كان بداية اتجاه لمتابعة ملفات صون التاريخ في العالم الإسلامي خصوصاً في المدن التاريخية مثل مدينة فاس القديمة ومدينة تونس في تونس، ومدينة صور في لبنان، ومدينة صنعاء وشيبان في وادي حضرموت وكلها ملفات لاتزال مفتوحة. مشيراً إلى أن تأثير المناخ في الآثار والمواقع التاريخية لم يكن يحظى باهتمام مركز قديماً، ولكن اختلف الأمر في ظل التغيرات المناخية الكبيرة التي بات العالم يشهدها في السنوات الأخيرة مثل الأمطار الغزيرة والزلازل المدمرة كما في زلزال تركيا وسورية، والفيضانات التي تحدث في مناطق مختلفة من العالم، وذوبان الثلوج في المناطق الباردة وارتفاع مستوى البحر في مناطق أخرى.
وهناك ملفات يتم العمل عليها في هذا الشأن، ومنها مدينة سانت لويس في السنغال، والمدن المدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو، حيث شهدت مناطق منها ارتفاع مستوى البحر وتم بناء جدار لحماية المدينة.
تعاون دولي
وأشار الخبير الدولي الذي شغل العديد من المناصب البارزة في هذا المجال، أن هناك ملفات أخرى فرضت نفسها على الساحة في السنوات الأخيرة نتيجة لتأثير الحروب، ومن ضمنها التراث في البوسنة والهيرسك خصوصاً جسر مدينة موستار الذي بني في العهد العثماني، وتحديداً في القرن الـ16، وقام بتصميمه مهندس عثماني معروف اسمه حجر الدين، ودمر الجسر في الحرب عام 1992، ثم في الفترة من 1993 إلى 1994. لافتاً إلى أنه أشرف على ملف ترميم الجسر الذي بات رمزاً للسلام. إلى جانب ملف ترميم المنطقة التراثية لحضارة «الخمير» في كموبديا، وما تضمه من معابد بوذية شهيرة، ويجري الترميم تحت تعاون دولي بإشراف لجنة دولية حكومية ترأسها فرنسا واليابان إلى جانب «اليونسكو».
الإمارات.. دور فاعل
وأوضح بوشناقي أن دولة الإمارات لها دور كبير في صون التراث الإنساني العالمي، حيث كانت أول ممول لمبادرة إحياء روح الموصل التي أطلقتها «اليونسكو» في عام 2018، وتتضمن إعادة إعمار الجامع النوري والمئذنة الحدباء وكنيستي الساعة والطاهرة، وهو المشروع الذي بلغ مراحله الأخيرة، وسيتم تدشين المسجد في 2024 بفضل دعم الإمارات ومتابعة دورية عبر تقارير يجري تقديمها كل ستة أشهر.
وحول الدور الذي يمكن أن تلعبه التقنيات الحديثة في مجال حماية التراث والآثار التاريخية، أكد بوشناقي أن هذه التقنيات لها تأثير إيجابي جداً، لافتاً إلى أنه عندما بدأ العمل في هذا المجال في فترة السبعينات من القرن الماضي، كان المسح الميداني للمباني والمواقع التاريخية يتم باستخدام آلات تقليدية، وبينما يشهد العمل حالياً تطوراً كبيراً في ظل وجود آلات عصرية وتقنيات حديثة مثل الهولوغرام والرسوم ثلاثية الأبعاد والطائرات بدون طيار (الدرون) وغيرها، وهو ما أسهم في تطور العمل وجعله أسرع وأكثر دقة.
وأضاف «أتاحت التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي خدمات لم تكن موجودة في السابق مثل إعادة تصور كيف كان المبنى قبل تدميره لمعرفة ما هي الأجزاء المفقودة والمهدمة وكيف كانت تبدو، وهو ما تم تطبيقه في كل المواقع التاريخية التي صار فيها دمار مثل مناطق لبدة وسيران في ليبيا، والموصل بعد خروج الجماعات الإرهابية منها، وهي أشياء لم تكن متاحة من قبل من دون هذه التقنيات».
تداعيات متعددة
وأشارت الباحثة في الإدارة العامة للقاهرة التاريخية بوزارة الآثار المصرية، رغدة نصر النزوري، وهي حاصلة على درجة الماجستير في الآثار الإسلامية في مناطق الصراعات، إلى التأثير الكبير للتغير المناخي في الإنسان والمجتمعات العمرانية، وكذلك في الآثار والمواقع التاريخية، مثل تأثير العواصف القوية على المباني والمنحوتات خصوصاً أنه تأثير يتراكم عبر الزمن، كما للأمطار الغزيرة تأثير في البنية التحتية للمواقع التاريخية.
وضربت مثلاً بأحد المواقع الأثرية في مصر وهو بيت الرزاز، وهو بيت له قيمة كبيرة في التاريخ لأن مساحته واسعة إضافة إلى أن جزءاً منه يعود للعصر المملوكي وجزءاً للعصر العثماني، وأصابته عاصفة في عام 2002 أدت إلى تصدع جانب منه، ومع الوقت بدأ التصدع يزداد ويؤثر في المبنى.
لافتة إلى أن هذه التأثيرات لها جانب اجتماعي وثقافي أيضاً، فكثير من المباني التراثية تخدم المجتمع باعتبارها مراكز للأنشطة الثقافية والتراثية، وهذا يحدث في كثير من الدول، وتضرّر هذه المباني يؤثر في النشاط الثقافي في المنطقة والمجتمع المحيط بها. كما أشارت إلى أن الزلازل ودرجات الحرارة المرتفعة تؤثر في المباني وفي ثبات وسلامة الأحجار المستخدمة فيها، وأحياناً تتسبب في حرائق يكون لها تداعيات مدمرة للمواقع الأثرية، خصوصاً تلك التي تعتمد على الأخشاب في تنفيذها.
واعتبرت النزوري أن التقنيات الحديثة لها دور مهم في تطوّر قطاع الآثار، حيث تسهم في اكتشاف المواقع عبر تقنية المسح بالليزر لمعرفة إذا كانت هناك آثار على عمق معين من الأرض قبل الحفر، وتحديد العصر الذي ينتمي إليه الأثر، كما يمكن الاستفادة منها في اكتشاف القطع المزيفة، وغير ذلك من المساهمات المهمة.