بين أحضان جبال حتا.. فنان إماراتي يروّض الحجر 30 عاماً

من بين أحضان جبال حتا، وعلى امتداد ثلاثة عقود من الزمن، استطاع الفنان التشكيلي، علي السيد إبراهيم السادة، أن يصنع من الأحجار مشروعاً فنياً فريداً، يعيد تشكيل العلاقة بين الطبيعة والهوية الإماراتية، فمن بين صخور هذه المنطقة الخلابة بألوانها المختلفة وأشكالها المتنوعة، ولدت «قرية حتا الحجرية»، وهي ليست مجرد معلم فني، بل شهادة حية على إبداع الإنسان الإماراتي، وقدرته على توظيف موارد بيئته لتوثيق تاريخه ورواية قصصه بطرق مبتكرة تروّض الحجر، وتجعله ناطقاً بالإلهام والجمال.

يؤمن علي السيد بأن الطبيعة أعظم معلم للفنان، فمنذ أن بدأ العمل على مشروعه، في التسعينات، حوّل مزرعته الخاصة إلى قرية حجرية، واستلهم كل تفاصيل إبداعه من جمال الجبال، وانحناءات الوديان، وألوان الصخور التي حملت في طياتها قصصاً صامتة عن الزمن.

وقال علي السيد، في مستهل حواره مع «الإمارات اليوم»، إن «القرية الحجرية ليست مجرد مكان، بل مساحة تعج بالحياة الفنية والأعمال الحجرية الاستثنائية التي تحمل في طياتها رسائل إنسانية وتاريخية، وأسعى من خلال كل قطعة حجرية إلى تقديم تجربة فريدة تظهر جماليات الحجارة المختلفة في أشكالها وألوانها، إذ يتحول الحجر إلى لغة تروي قصصاً وحكايات مستوحاة من تاريخنا وهويتنا الإماراتية».

وأشار إلى أنه اختار منطقة حتا لتكون موطناً لقريته الحجرية التي تحمل بصماته الفنية، مستفيداً من طبيعتها الخلابة، إذ تقع خلف جبالها - وتحديداً في سلطنة عمان الشقيقة - المياه، بينما تحيط بها صحراء دبي، مضيفاً: «حتا تجمع بين بساطة دبي وخصوصية الطبيعة، فهي منطقة فريدة بموقعها وتكوينها، و70% من الحجارة التي أستخدمها في أعمالي جمعتها من جبال حتا، وهي من سبعة أنواع مختلفة، لكل منها قصة ولون وشكل خاص».

شغوف بتوثيق الذكريات

وأوضح الفنان التشكيلي أن القرية تضم مجموعة من الأعمال التي توثق أحداثاً وشخصيات مهمة، لما يحمله من شغف كبير بتوثيق الذكريات والأحداث التاريخية بأسلوب فني مميز، وأحد أبرز أعماله الحجرية يوثق لقاء المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والمغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراهما، في عام 1968، وهو اللقاء الذي أسس لقيام الاتحاد، كما يعمل حالياً على توثيق أحداث كبرى أخرى، مثل رفع العلم، إضافة إلى تخليد شخصيات قيادية إماراتية بأسلوب حجري يركز على الرمزية بعيداً عن التشخيص الكامل.

استعادة زمن البساطة

ولا تقتصر الأعمال الحجرية في القرية على توثيق أصحاب السمو الشيوخ والشخصيات البارزة فقط، بل تمتد لتشمل تفاصيل الحياة اليومية البسيطة التي تشكّل جزءاً من الهوية الإماراتية، حسب علي السيد، متابعاً: «ذاكرتي غنية بالتفاصيل التي عايشناها، مثل أصحاب البقالات والخبازين، وحتى (الكندري) الذي كان يعمل في نقل المياه إلى المنازل.. هذه التفاصيل الصغيرة تحمل قيمة كبيرة، وأسعى لتحويلها إلى أعمال حجرية تروي قصصها للأجيال المقبلة».

ومن أحدث أعمال الفنان علي منحوتة بعنوان «حاملة الجدر»، التي يصفها بأنها امرأة تحمل في مضمونها وصورتها جمال البساطة وروح الماضي، ومنحوتة تستعيد ذلك الزمن الجميل الذي عشناه، زمن السكينة والبساطة، وهذا العمل سيكتمل خلال 15 يوماً، ويمثل جزءاً من رسالته في توثيق الماضي بأسلوب فني مختلف.

واستطرد: «هدفي هو أن يشعر كل من يزور القرية بأنه أمام إبداع لم يسبق له مثيل، إذ لا يرى شيئاً مألوفاً، بل يكتشف عالماً جديداً من الفنون الحجرية، فالقرية تمثل جزءاً من هويتنا، وهي رسالة مفتوحة تتطور يوماً بعد آخر، تعكس روح الإبداع والإصرار على تقديم أعمال تبهر العالم، وتعبر عن قيمنا وتاريخنا».

وعن طبيعة فنه وتعامله مع الحجر، اعتبر أن «الأشكال والخطوط التي تقدمها الطبيعة لا نهاية لها، وكل حجر يحمل في داخله حكاية بانتظار أن تروى. بالنسبة لي، تشكيل الحجر ليس مجرد عمل فني، بل هو رحلة تأمل تكشف عن التوازن بين الفكرة ومواد الطبيعة الخام، لتصبح كل قطعة عملاً فنياً يحتفي بالجمال، فالحجر ليس مجرد كتلة صماء، بل هو مخلوق حي ينبض بالحياة والتاريخ».

صاحب فلسفة

وفي كل زاوية بالقرية الحجرية، يعكس علي السيد فلسفته العميقة في استخدام الزمن كعنصر حيوي في إبداعه الفني، ويصف تجربته مع الحجر بأنها نوع من التواصل اللامحدود مع المادة، قائلاً «عندما أتعامل مع الحجر، كأن الحجر يخبرني: (اترك الزمن)، فأنا لا أخضع عملي الحجري للزمن، ولا أتبع تسلسلاً زمنياً ثابتاً في تنفيذ أعمالي، بل أبدأ في العمل، وقد أتوقف في منتصفه، ثم أعود إليه في وقت لاحق لاستكماله أو تعديله، فالزمن هو أداة مرنة، تتيح لي الفرصة للرجوع إلى الأفكار والتفاصيل، ما يضيف إلى العمل المزيد من العمق والطبقات المعنوية».

وبالنسبة له، ليس الزمن مجرد إشارة لمرور الوقت أو تسلسل الأحداث، بل هو حالة متكاملة، يتفاعل فيها الفنان مع المادة والبيئة، إذ لا يلعب الوقت دوراً مقيّداً، بل يدخل في شراكة مع الإبداع، فيرى بفلسفته الخاصة أن بعض الأعمال تحتاج إلى وقت أكبر لكي «تتمخمخ»، حسب تعبيره، أي تحتاج إلى فترة من التفكير والتطور الداخلي قبل أن تكتمل، كما أن الإبداع لا يتبع قواعد محددة، بل يتطلب لحظات من التأمل، وربما حتى من التوقف التام قبل أن تظهر الفكرة في شكلها النهائي، مؤكداً أن بعض الأعمال تحتاج إلى إمداد عقلي أكثر، فيدعها حتى «تتمخمخ».. ثم يكمل العمل.

وشدد علي السيد على ضرورة دعم المواهب الإماراتية في مجال الفنون، لذلك، يعمل على تخصيص جزء من قريته لتكون مساحة عمل وعرضاً للفنانين الإماراتيين، لافتاً إلى أنه يمكن لأي فنان أن يأتي بحجارته ويعمل في هذا المكان، وسيكون الموقع منصة للإبداع، ومكاناً لعرض أعمال الفنانين الإماراتيين، بما يعزز حضورهم في الساحة.

رسالة للعالم

على الرغم من طموحه لافتتاح القرية الحجرية للسياحة مستقبلاً بموافقة الجهات المختصة، أكد الفنان علي السيد أن هدفه الأساسي ليس تجارياً، إذ يطمح إلى تقديم شيء يبهر العالم. وأضاف «نحن في دبي نملك إرثاً تاريخياً وبيئياً غنياً يمكن أن يكون مصدر إلهام عالمي، وأدعو إلى إجراء مسح شامل لمدينة دبي لاكتشاف الفرص الفنية، وتحديد المواقع التي يمكن أن تستضيف أعمالاً فنية تعكس تاريخنا وقيمنا الأخلاقية والاجتماعية».

وتابع: «الفنون يمكن أن تكون رسائل حضارية للعالم، علينا أن نستكشف الفنان الإماراتي ومواهبه، ونوفر له البيئة التي تتيح له الإبداع، فدبي هي مدينة الإبداع، وقادتنا يدعمون الفن والفنانين، لذلك علينا أن نرتقي بمستوى الأعمال الفنية بما يليق برؤية دبي العالمية».

مفتاح النجاح

خلال رحلته الطويلة، واجه الفنان التشكيلي، علي السيد، تحديات كثيرة، لكنه يؤمن بأن الإصرار هو مفتاح النجاح، معترفاً بأنه شعر أحياناً باليأس «لكن الدعم الذي حصلتُ عليه من الآخرين شجّعني على الاستمرار، خصوصاً أن إحدى الشخصيات المهمة توقفت بطائرتها فوق القرية، وأعربت عن إعجابها بما رأت، قائلة: (هذا غير موجود في العالم)، وهذا النوع من التقدير يمنحني دافعاً أكبر للمضي قدماً».

علي السيد:

. دبي مدينة الإبداع.. وعلينا أن نرتقي بمستوى الأعمال الفنية بما يليق برؤية دبي العالمية.

. ذاكرتي غنية بالتفاصيل التي عايشناها.. وأسعى لتحويلها إلى أعمال حجرية تروي قصصها للأجيال.

. %70 من الحجارة التي يستخدمها علي السيد في أعماله جمعها من جبال حتا، وهي من سبعة أنواع مختلفة.

. المشروع الفني الفريد يعيد تشكيل العلاقة بين الطبيعة والهوية الإماراتية.

لمشاهدة الفيديو، يرجى الضغط على هذا الرابط

الأكثر مشاركة