بقايا قدس
تشعر وكأنك في مواجهة أكبر حملة تهجير تجري تحت سمع وبصر العالم الذي لا يتحرك،. فالقدس عمليا دخلت مرحلة الهضم التهويدي بعد عقود من القضم والضم والعزل.. هذه أم كامل الكرد أمام خيمتها تسرد وقائع طردها من بيتها في حي الشيخ جراح والتي يتهدد التهويد منازله التسعة والعشرين.. وها هم أصحاب المنازل المهددة بالهدم في حي البستان بسلوان يخوضون معركة البقاء منفردين فالزحف الاستيطاني يهرول من علٍ نحوهم مرورا بوادي حلوة، حيث تمترس مستوطنون قبالة مقبرة السلوانة أسفل المسجد الأقصى من الشرق، وأزالوا يافطة سلوان وكتبوا بدلاً منها مدينة داود. كأنما القدس تلفظ أنفاسها تحت وطأة الاستيطان التهويدي؛ فمن الحي اليهودي انتشر وباء الاستيطان نحو الأحياء المجاورة واستقر على شكل كنيس يطل على المسجد الأقصى من جهة عقبة الخالدية. والكنس تتكاثر كالطحالب حول المسجد مثلها مثل مراكز الشرطة وكاميرات المراقبة التي تنتشر في كل الزوايا والطرقات ترصد أية حركة في البلدة القديمة ومن خلال كُوة في باب أسفل الكنيس الذي بني فوق مبنى قديم يمكن مشاهدة أعمال حفريات لأنفاق تحتية تتجه نحو المسجد الأقصى وساحته. فهناك شبكة أنفاق لا تنتهي يجري حفرها تحت المسجد سواء انطلاقا من باب المغاربة وساحة البراق أو من وادي حلوة في سلوان بحيث أخذت تهدد المسجد وأسواره بالانهيار، فهنا كل شيء مباح للإسرائيليين يدمرون، يحتلون منازل، يسطون على الآثار يحفرون الأنفاق لتدمير المقدسات وفي المرحلة النهائية يقتحمون ساحة المسجد لإقامة كنيس قرب قبة الصخرة ويعلنون عن تقسيم الحرم القدسي كمقدمة للاستيلاء عليه مثلما حدث في الحرم الإبراهيمي في الخليل. ولعل الخطوات المتسارعة في مخطط التطهير العرقي الذي يهدد 60 ألف مواطن مقدسي جاء بسبب غياب ردود الفعل الموازية، فالسياسة الإسرائيلية تقوم على اتخاذ إجراءات معينة ثم انتظار رد الفعل الفلسطيني والعربي والإسلامي والدولي.. وإذا كان رد الفعل ضعيفا يستمرون في إجراءاتهم، ولم يكن يدور في خلد أحد أن تصل الجرأة إلى قلب المسجد الأقصى وأسفله ومحيطه كما يحدث الآن، لكن غياب ردود الفعل هي التي جعلت الإسرائيليين يكثفون مخططاتهم الاستيطانية وينفذونها دون خشية من أحد.
إن المرحلة الحالية التي تعيشها القدس هي الأخطر في تاريخها حيث يجري تغيير معالمها التاريخية بالطمس أو الإزالة أو التهويد كما يجري إحداث تغيير ديموغرافي بترحيل المقدسيين والاستيلاء على بيوتهم سواء بالهدم أو المصادرة، فقد تعرضت القدس لاحتلالات عديدة عبر تاريخها لكن الاحتلال الإسرائيلي هو الأخطر لأنه يستهدف الحجر والبشر والشجر وإلغاء هوية القدس وفرض هوية جديدة ملفقة، ففي زمن احتلال الفرنجة للمدينة لم تجر عمليات طمس للمعالم التاريخية بل بقيت المساجد والكنائس كما هي وإن أهملت بل وضعت حراسة مشددة على قبة الصخرة حتى لا يقوم الغزاة القادمون من اوروبا بسرقة قطع أثرية تذكارا من المسجد.. ولعل احد الملوك الذي جيء به من صقلية ليتولى مملكة القدس كان صريحا عندما دخل ساحة المسجد الأقصى آنذاك ووجد حارسا عربيا يطارد العصافير بحجارته حتى لا تدنس بروثها المكان، فقال له مشفقا «كنت تنتظر العصافير فجاءتك الخنازير».