الشاعر اللبناني غسان مطر. أرشيفية

غسان مطر..صوفية وإيمان وشعرية

مجموعة الشاعر اللبناني غسان مطر الجديدة «للموت سر آخر»، حافلة بالفكري غير المدعى، والمتدفق مشاعر حية، وتشكل تساؤلات حارة، بل شبه محرقة في حزنها عن الموت والحياة وما بينهما. وتتسم قصائد المجموعة احياناً بصوفية لا تضيع فيها حياة أو شيء وأحياناً أخرى بإيمان عميق يكاد يطل على الكفر، ثم يتراجع فكأنه يسعى الى ترسيخ ذاته وتنقيتها من الشك ونيرانه الأكالة.

وغسان مطر في كل ذلك يكتب بشعرية نفاذة حزينة تسيل من النفس بحرارة تنتشر في كلماته فتمنع تساؤلاته وجولاته الفكرية، من ان تسقط في الذهني فتتجمد او تبرد.. والتجمد والبرد من اشد الآفات فتكاً بالشعر. واذا كان الموت هو اكثر محركات ودوافع التساؤل الفكري والايمان العقلي والديني او رفض الاثنين معاً، والانتهاء الى عبثية عاصفة او هادئة فعلاقة غسان مطر بالموت وما حوله وثيقة، سواء في تساؤلاته ومشاغله وهمومه القديمة كشاعر ورجل فكر ومناضل عقائدي سياسي، لكنها لم تلبث من الناحية الفعلية ان تحولت الى نوع من القدر الوحشي في قسوته الذي اختطف وحيدته الغالية، وهي في سن الورود في انفجار وقع عشية الاحتفال بعيد ميلادها.

وقد كتب غسان فيها شعراً من اشد الشعر ايلاماً وتأثيراً في النفس، وقبل بضعة اشهر خلال هذه السنة عاد الموت فاختطف زوجته رفيقة عمره وشريكة احزانه ونضاله وايام الفرح والاحلام الآفلة. وليس من قبيل المبالغة وصف البعض لهذا الشاعر الرائع بأنه «ايوب» في هذا الزمن، وقد جعلته الاحزان يفيض شعرا جارحا فيه كثير من التساؤل والشك، وبعض ما يبدو ابعد من ذلك، وفيه نفس ايماني قد لا يختلف كثيرا عن النفس «الايوبي». ومجموعة «للموت سر اخر» هي كتاب غسان الشعري الرابع عشر منذ سنة ،1965 وغسان مطر نائب سابق في البرلمان اللبناني واحد ابرز اعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي.

المجموعة التي صدرت عن دار رياض الريس للكتب والنشر جاءت في 158 صفحة متوسطة القطع. قصائدها الست والثلاثون ادرجت تحت ثلاثة عناوين هي «ايقاعات تائهة» و«مدائح النار والياسمين» المؤلفة من ثلاث قصائد طويلة مهداة الى ثلاثة راحلين كبار هم ممدوح عدوان ومحمد الماغوط ويوسف سلامة.

العنوان الثالث كان «للموت سر اخر»، الا ان الموت لا يقصر اسراره على هذا القسم، بل توزعت هذه الاسرار على قصائد المجموعة كلها. في قصيدة بعنوان «سر» يقول الشاعر «تختارني الدروب او اختارها، امضي، وانسى انني امضي، وانسى انني احلم بالوصول، امر بالبيوت عند الفجر، اسقي الورد، ثم ابدأ الغناء، كي تستيقظ الفصول، امر بالاطفال، يضحكون قبل نومهم، اقطف من ضحكتهم شرارة، لأشعل القنديل»، وفي قصيدة «طقوس» يعدد الشاعر طقوساً، ويقول في احدها «في طقوس السماء، اننا عندما ننحني لنلم انكساراتنا، ويطوف البكاء، لا نرى غير مقبرة، فوق عرش السماء». وفي قصيدة «ركام» يقول غسان «ليس في ليل هذا الركام، المدجج بالموت، طفل يغني، ولا وردة تتثاءب في سرها، ليس في ليل هذا الركام، احتمال لأغنية، او صلاة، والسماء ملبدة بالذئاب، وكل «الشوارع محشوة بالنعوش المدماة، والبوم والمومسات، فالصباح الذي سوف يأتي قتيل، فهذا الصباح الذي سوف يأتي، صباح الطغاة».

في القسم الاخير الذي حمل عنوان «للموت سر اخر»، والمهدى الى «الاحبة وقد رحلوا»، نقرأ غسان في قصيدة عنوانها «ولكنهم ههنا»، حيث يقول «لا نراهم، ولكنهم بين ارواحنا، يشعلون قناديلهم، يقرأون مطالع اسرارنا، ويزورون احلامنا، كلما هب شوق التراب، لا نراهم، ولكنهم ههنا، بين قلب وخفقته، بين عين ودمعتها، يملأون الغياب، لا نراهم، ولكنهم يعرفون مواعيدنا، يفرشون مكاناً لنا بينهم، عندما يتهاوى جدار الضباب».

قصيدة «تعب» يبدأها بقوله«اشعلي شمعة في الرواق، لأمضي ولا اتعثر، نحو مدائنك المترفة»، ويختمها «اشعلي شمعة في الرواق لأمضي، تعبت من القلق الآدمي، تعبت من الخوف، وانصرف الناس، لم يبق مني سوى جثة، تشتهي ان يمد الغياب الثقيل، على وجهها معطفه». اما قصيدة «خاتمة»، فهي كما وصفها الناشر «جردة حساب دقيقة» للعمر. يقول غسان «لا اريد من الارض اكثر من رأفة، ومن الناس اكثر من لهفة، قلت ما قلت، هل كان ما قلته عبثا، هل مررت غريباً، ولم اتخذ صديقا اكاشفه، هل خذلت بلادي، هل كان صوتي قريباً».

تنتهي من قراءة المجموعة ويخيل اليك انك تتمتم مخاطباً نفسك خلسة عنها قائلاً «تباركت الآلام العظيمة».

الأكثر مشاركة