الشاي.. تاريخ من الجمال
«ينطوي الشاي على سحر خفي يجعله لايقاوم ويمنحه القدرة على إسباغ الإحساس بالمثالية، فالشاي ينأى بنفسه عن غطرسة النبيذ، وعن غرور القهوة، وعن البراءة المتكلفة في نبتة الكاكاو»، هذه الكلمات التي تحمل من البلاغة والعمق بقدر ما تحمل من طرافة؛ للكاتب الياباني اوكاكورا كاكوزو، تقودنا إلى التعامل مع الشاي، ذلك المشروب الشعبي الذي يعد الأكثر انتشاراً في العالم، من منظور مغاير باعتباره جزءاً من التاريخ والثقافة والهوية أيضاً.
خصوصية
من هذا المنظور انطلق كاكوزو في تأليف كتابه «كتاب الشاي» قبل نحو قرن من الزمن، والذي أطلق «مشروع كلمة» الترجمة الاولى له باللغة العربية، وذلك في حفل للشاي وفقاً للطقوس اليابانية اقيم أول من أمس في فندق العين بالاس في أبوظبي، بحضور السفير الياباني لدى الدولة تاتسوو واتانابي، والدكتور علي بن تميم ومدير مشروع «كلمة»، الذي أوضح ان «كتاب الشاي» يعد أحد أهم الأعمال الكلاسيكية على مستوى العالم، وهو يبني نموذجاً ممتازاً لكيفية الحفاظ على خصوصيتنا، والتواصل مع الآخرين، حيث وضع المؤلف كتابه في معرض الدفاع عن خصوصية بلده اليابان إزاء موجة «التغريب» التي يتعرض لها، وشعوره بأن الهوية اليابانية باتت مهدّدة بالضياع أمام كل ما هو غربي، وإن لم يكن يتناسب مع روح بلاده وحضارتها العريقة. وقد وجد كاكوزو في طقوس الشاي منصة للدفاع عن هذه الهوية على اعتبار أن الشاي، ورغم نشأته الأولى في الصين، قد تطوّر وتشكّلت مدارسه وطقوسه في اليابان على مرّ مئات السنين، حتى بات اسمه مرادفاً لاسم اليابان نفسها.
الشاي واليابان
عبر سبعة فصول جمعتها 94 صفحة في طبعة فاخرة، تأتي الترجمة العربية لـ«كتاب الشاي» التي قدمها الكاتب والمترجم سامر ابوهواش، لتحمل القارئ بلغة شعرية مكثفة، في رحلة يتعرف خلالها إلى تاريخ الشاي، وعلاقته باليابان، قبل أن يعالج كل ما هو مرتبط بالشاي من معان، بما في ذلك طقوس تحضيره وشربه وحجرة الشاي، وصلة هذا المشروب بالأفكار الروحية من قبيل الزن والتاو، مستعرضاً مدارس الشاي وكبار المعلمين الذين رسخوا طقوسه على مرّ السنين، متوقفاً في فصل خاص مفعم بالشاعرية والحسّ الإنساني العالي عند دلالة الزهور وأهميتها في طقوس الشاي هذه. وهي رحلة قد تختصرها كلمات الشاعر الصيني لو تونغ واتي تصدرت الكتاب: «الكوب الأول يرطب شفتي وحلقي، والكوب الثاني يكسر وحدتي، والثالث يجوس في داخلي المجدب فلا يجد هناك سوى نحو 5000 مجلد من النقوش الغربية. الكوب الرابع يتسبب في تعرق بسيط تخرج معه من مسامي جميع مساوئ العيش. وحين أصل إلى الكوب الخامس أكون قد تطهرت؛ والكوب السادس يناديني إلى جنات الخلد. أما الكوب السابع.. آه، لا استطيع تناول المزيد! لا أحس سوى بهبوب النسيم العليل في أكمامي. أين أنت يا هورايسان (وتعني ارض السعادة الابدية)؟ دعوني امتطي الخيل في هذا النسيم العذب وارتحل إلى هناك».
الشاي والزهور
يتضمن «كتاب الشاي» فصلاً كاملاً عن الزهور وعلاقتها بالشاي في الثقافة اليابانية، يتطرق بلغة شعرية أنيقة ورقيقة لعلاقة الزهور بالإنسان منذ بداية الخليقة، وفي مراحل حياته المختلفة وحتى بعد وفاته، حيث تكون الزهور رفيقاً له إلى مثواه، وتلقى الزهور في حجرة الشاي إجلالاً كبيراً، فهي مثل أميرة متوجة، ويبدو أن ولادة فن تنسيق الزهور جاءت متزامنة مع «الشايية» في القرن ،15 ومع الوقت تطورت هذه العلاقة، وقد أشار بعض الكتاب في منتصف القرن الماضي إلى أنه يمكن إحصاء أكثر من 100 مدرسة مختلفة في تنسيق الزهور، وهي تنقسم إلى تيارين رئيسين: التيار الشكلاني، والتيار الطبيعي. ويختتم الكتاب رحلته الشيقة في عالم الشاي وتاريخه بمقولة الشاعر ليتشي لاي وهو شاعر من سلالة سونغ «ليس ثمة ما هو أكثر بؤساً في هذا العالم من إفساد الشباب المرهف بالتعليم الخاطئ، وانحطاط الفن الجميل عبر الإعجاب السوقي، والهدر التام للشاي الجيد عبر التلاعب غير الكفء به. |
سكن الوهم
يمضي «كتاب الشاي» ليرسم صورة عميقة للشاي، ليس فقط كمشروب، ولكن أيضا كمعلم ثقافي وتاريخي ارتبط عبر قرون بالثقافة والحياة اليابانية، فيفرد باباً خاصاً لحجرة إعداد الشاي، أو «سكن الوهم» (وهي ترجمة لكلمة سوكية التي كانت تطلق على هذه الحجرة قبل ان يستبدل معلمو الشاي بتعبيرات أخرى لكلمة السوكية مثل بيت الفراغ أو مسكن اللا متناظر). فهي «مسكن الوهم» لاحتضانها اللحظة الشعرية، وهي مسكن الفراغ بقدر ما تخلو من عناصر الزينة والديكور، إلا ما يوضع لتلبية احتياجات اللحظة الجمالية، وهي أيضاً مسكن اللا متناظر بقدر ما تكون مكرسة لعبادة النقصان أو عدم الاكتمال، وترك بعض الأشياء غير مكتملة عمداً لكي يكملها الخيال. مشيراً إلى أن «حجرة الشاي المستقلة الأولى من إبداع سينو سويوكي المعروف باسم ريكيو، وهو أعظم معلمي الشاي، وقام في القرن 16 بوضع أسس طقوس الشاي وإيصال شعائرها إلى حد الكمال تقريباً. بينما تقررت نسب حجرة الشاي عبر «جو وو» وهو معلم شاي شهير من القرن ،15 وقد تكونت حجرة الشاي الأولى جزءاً من حجرة الرسم الاعتيادية في البيت الياباني المصنوع من الخشب والخيزران، وقسمت بستائر بهدف اجتماع الشاي، وسمي هذا القسم بالكاكوي «السياج»، وهو اسم مازال يطلق على حجرات الشاي التي تبني داخل البيوت ولا تكون مستقلة.
عناية شديدة
وتتكون «السوكية» من مساحة حجرة الشاي التي صممت لاستضافة ما لا يتجاوز الخمسة أشخاص، ومن حجرة انتظار «ميدسويا»،حيث تغسل وتُعد عدة الشاي قبل إدخالها، ومن شرفة «ماتشياي» ينتظر فيها الضيوف حتى يتم استدعاؤهم للدخول إلى حجرة الشاي، ومن مجاز حديقة «الروجي» الذي يصل الشرفة بالحجرة، ورغم ان الحجرة الشاي أصغر من أصغر البيوت اليابانية، ويقصد من المواد المستعملة في تشييدها منح الانطباع بالتقشف المهذب، إلا أن التفاصيل قد اشتغل عليها بعناية ربما أكبر من تلك التي تسبغ على أرفع القصور والمعابد، وتكلف حجرة الشاي الجيدة أكثر من البيت العادي، ذلك أن اختيار موادها، واليد العاملة على بنائها، يتطلب عناية شديدة ودقة.
طقوس
الدخول إلى حجرة الشاي أيضاً له طقوسه التي وضعها معلمو الشاي لخلق أجواء من الصفاء والسكون، لتكون ما يشبه بكسر العلاقة بالعالم الخارجي وإنتاج إحساس جديد يفضي إلى المتعة الكاملة لجمالية التذوق في حجرة الشاي نفسها، ولذا على الضيف أن يقترب ببطء، وإذا كان من مقاتلي الساموراي، فسيترك سيفه تحت الافريز، لأن حجرة الشاي في المقام الأول دار السلام، ثم يحني قامته ويدخل زحفاً عبر باب صغير لا يزيد ارتفاعه على ثلاث أقدام، وهي طريقة يتبعها الجميع من الطبقة العليا أو الدنيا على السواء لطبع التواضع في الذهن، ويدخل الضيوف واحداً بعد الآخر ليتخذوا أماكنهم في الجلوس، وينحنوا إجلالاً أولاً أمام الرسم أو الورود المنسقة على «التوكونوما» وتعني موضع الشرف أو المنصة في حجرة الشاي. ولا يدخل المضيف الحجرة قبل أن يتخذ الضيوف أماكنهم ويعم الهدوء، حيث لا يسمع في المكان سوى صوت إيقاع المياه التي تغلي في الغلاية الحديدية، بصوت جميل، فقطع الحديد رتبت بالقاع لكي تنتج لحناً غريباً.