«زلة» تعيد التوازن إلى مهرجان الشباب

حظي عرض مسرحية «الزلة» لجمعية كلباء للفنون الشعبية والمسرح بارتياح ساد أجواء المتابعين للمهرجان من جمهور وممثلين، وقوبل بانطباعات مناقضة لمسرحيات سابقة لم تلق هذا الدعم والاحتفاء. وبنسيج مع واقع قضايا الشباب أخيراً، تمت الاستجابة لدعوات اللجنة المنظمة للمهرجان، عبر دورتيها الأخيرتين، وظهر على سطح خشبة مسرح ندوة الثقافة والعلوم أول من أمس عمل اختار له مخرجه عبد الرحمن الملا عنوان «الزلة»، يسعى فيه إلى معالجة واحدة من قضايا الشباب الأكثر أهمية، عبر لغة مسرحية راقية تسعى إلى المناقشة الهادئة في الطرح، من دون أن تفتقد في الوقت نفسه جماليات العمل المسرحي، في ظل رؤية إخراجية عاشها جمهور المهرجان في خامس أيامه.

 صلاح القاسم: فرصة لصناعة «النجوم»

قال المستشار الثقافي لهيئة دبي للثقافة والفنون، الدكتور صلاح القاسم، إن «التجربة الحالية في مهرجان مسرح الشباب أكدت أن التركيز على القضايا المحلية أكثر جذباً للجمهور من القضايا الأكثر عمومية، والحضور الجماهيري الجيد هو العامل الأكثر حسماً في إنجاح المهرجان». وتوقع القاسم أن تكون الدورة الحالية الأكثر حماسة من ناحية المنافسة، بسبب دخول الدراما التلفزيونية طرفاً فيها عبر مؤسسة دبي للإعلام التي تبحث في عروض المهرجان عن عناصر جديدة تثري بها إنتاجها الخاص، ما يعني اختزال مسافة النجومية التي تحتاج على المسرح في الغالب مساحة زمنية طويلة، من أجل الوصول إلى نجومية جماهيرية، توفرها الدراما التلفزيونية في فترة زمنية وجيزة. ولاحظ القاسمي في متابعاته اليومية للمهرجان وجود خبرات شبابية مهمة، يمكن أن يكون لها مردود جيد على المسرح المحلي، معتبراً التركيز الإعلامي على نقل تفاصيل دورة المهرجان الحالية إحدى المكاسب الجديدة للساحة الثقافية والفنية المهمة عبر هذا الحدث الذي يستمر إلى الـ24 من الشهر الجاري.

 جوائز في انتظار العرض

قال الفنان محمد العامري إن مسرحية «الزلة» ستكون حاضرة بقوة في حصد جوائز الدورة الحالية لمهرجان مسرح الشباب، و«أستطيع التأكيد منذ الآن أن جائزتين على الأقل في انتظار هذا العمل الإبداعي الرائع». وأشاد العامري الذي كان عضواً في لجنة تحكيم الدورة الماضية للمهرجان بشكل خاص بالأداء التمثيلي للفنانين المشاركين في العمل، فضلاً عن قدرة عبد الرحمن الملا على إيصال رؤيته الإخراجية بسلاسة شديدة، مستعيناً بإمكانات فنية عالية المستوى في تنفيذ وتصميم الإضاءة لعبدالله مسعود، وهي كلها جهود كانت ستبقى مفرغة من دون الاعتماد على حرفية نص جيد للكاتب جمعة علي، ما ينحى بـ«الزلة» إلى أن تكون عملاً مسرحياً شديد التكامل.

 حسن رجب: الوجوه النسائية مبشرة

أشاد الفنان حسن رجب بالفرص التي يوفرها المهرجان للوجوه الجديدة، وبشكل خاص النسائية منها التي كانت دائماً تمثل تحدياً أمام توظيف شخصيات النص في عمل مسرحي يستند ضمن منظومته المتكاملة على كفاءة الممثلين. وأكد رجب الذي يرأس لجنة المشاهدة أن «الأصعب في عملية اتساع هامش الفعل الإبداعي المسرحي يتم الآن عبر كل تلك الحالات الاستيلادية لمواهب صاعدة، فيما يبقى الاشتغال على إمداد الصاعدين بالخبرات والفنيات اللازمة، سواء عبر ورش متخصصة، أو مشاركات متواترة، أحد الخيارات المهمة التي تستكمل هذا الحراك المسرحي المتاح عبر مهرجان دبي لمسرح الشباب».



أسباب كثيرة دفعت إلى استيلاد مسرحية ناضجة في تلك الليلة، في مقدمتها النضج الفني لمخرجها عبد الرحمن الملا الذي يعد من أفضل الممثلين الشباب المشتغلين في صمت على تطوير إمكاناتهم الدرامية، سواء فيما يتعلق بمشاركات تلفزيونية أو سينمائية أو مسرحية، ما يجعله ونظراءه دائماً يرتضون بأدوار تقل بكثير من حيث مساحتها عن المستوى الفني الذي يتمتعون به، في مشهد يصنعه انحصار الهالة الإعلامية حول أسماء بعينها.

إبداع

أكدت مسرحية «الزلة» من جديد أن إبداع الشباب يجب أن يحمل هماً شبابياً في المقام الأول، من أجل تقديم تصورات تصلح أن تكون بادرة لمناقشة قضايا مجتمعية مطروحة برؤية فنية، بعيداً عن سياسات استسهال الزج بقضايا قُتلت طرحاً على الخشبة، ولا تنسجم مع خصوصية مهرجان يصنع مادته الإبداعية مسرحيون شباب، وفي الوقت الذي سعت فيه أعمال أخرى إلى تلوين إطارها الإبداعي بمقولات تحيل إلى قضايا تخص الجيل الشاب في المقام الأول، راهنت «الزلة» على طرح وتحليل قضية عصرية، نتجت عن ممارسات دخيلة، وواقع جديد ساهم في صنعه واقع اجتماعي متردٍ، تمثل في انفتاح على الآخر، وفق المنظومة العولمية الجديدة، في وقت لم يتسلح فيه بعضهم بالقيم المجتمعية الأصيلة، لتكون المحصلة نتائج وخيمة تنذر بانهيارات كثيرة على مستوى الفرد والأسرة، ومن ثم المجتمع.

مريض محكوم بهواجسه، يعلو منتحباً بعبارات اليأس والضجر، محاذياً لسريره الذي يعطي انطباعاً أولياً أن المكان المسرحي هو غرفة داخل مشفى، الأمر الذي يعضده دخول فتاة في زي ممرضة، لتنكشف الأحداث بعدها عن أن «خالد» الذي يؤدي دوره الفنان أحمد ناصر يعاني بالفعل من مرض الإيدز، ومحكوم بهواجس امرأة.. أي امرأة تلك التي يلعنها ليل نهار.. تأبى الأحداث أن تنكشف دفعة واحدة، إلا من خلال لغة سردية لخالد نفسه، سعى إلى أن تكون أقرب إلى تقنية الاسترجاع، بمفهومها في الدراما التلفزيونية، على نحو كاد يخرجه عن جماليات الحدث وحركيته على خشبة المسرح.

جلاد أم ضحية

يشرح خالد من غير إيجاز بدايته مع «الرذيلة» التي بدأت بتصفح المواقع الإباحية على الإنترنت، وأسلمته إلى علب الليل والملاهي الليلية، بآثامها وشرورها كافة، قبل أن يختلط على الخشبة الحقيقي بالمتخيل، والسرد الجامد، بالحوار النابض بالفعل المسرحي، بعد أن زارته امرأة في حال إغواء شديد، لا ندري إن كانت امرأة أم طيف امرأة، ولا ندري تماماً أهي جلاد أم ضحية في علاقتها معه.

تتردد المرأة نفسها على خالد، وتستبدل ثيابها المتشحة بالسواد بأخرى شديدة البياض، لتتداخل الملامح له وللمشاهد، فلا يدري أهي المرأة اللعنة التي كانت سبباً وراء «الزلة» الأولى، أم الأخرى الضحية التي نقل لها عبر علاقة الزواج الشرعية مرضه، فقتلها وابنهما قبل أن يبقى رهين مصحة نفسية.

التشابه في الشكل يفضي بدلالات نفسية كثيرة، لكن استجابة المريض للدواء ،وحواره مع الممرضة يشي دائماً بأن ثمة أملاً قادماَ رغم «الزلة»، وهو أمر أصر الملا على تسريبه عبر عدة دلالات، فالكوب الضعيف المصنوع من مادة بلاستيكية رخوة يحطمها المريض كلما همت الممرضة بتقديم الدواء له، لم يعد كذلك، وأصبح معدنياً أشد صلابة، والإضاءة والموسيقى المصاحبة أصبحت أكثر تعبيراً عن بصيص أمل يلوح، على الرغم من «الزلة»، كانت أولى خطواته مقاومة الإغواء الذي عاد، ومصالحة مع النفس عبر حوار هادئ، وإصرار على عدم العودة إلى «الزلة».

طيف زوجة

ومثلما حاولت المرأة المتشحة بالسواد أن تحتويه بعباءتها، كان الفعل نفسه مع الأخرى الذي تبين فيما بعد أنها طيف زوجته الراحلة، قبل أن ينسج كلاهما حديثاً معبراً مع وسادة ظناها ابنهما الذي مات، لينسدل الستار في مشهد جنائزي قام فيه المريض بما يشبه تكفين نفسه، بعد أن تدثر بفراش السرير الأبيض، ومثله فعلت المرأة الطيف، ليستسلم كل منهما لجسد مسجى على الأرض بينهما (الطفل/الوسادة)، في مشهد نهائي أشبه بالحل الذي صفق له الحضور طويلاً.

ومع عدم وجود مساحة من أجل توظيف فنيات تتعلق بعنصر الديكور المسرحي، برز دور مهم للإضاءة بتدرجاتها ودلالاتها، لتتيح للمتلقي الغوص في العذابات النفسية للشخصية المحورية، التي عاب أداءها بشكل ملحوظ التفاوت الشديد بين حديث ذاتي لا تصل كثير من مفرداته إلى الجمهور، وحديث ذاتي صاخب أيضاً إلى حد عدم وضوح معاني كلماته المختلطة بالصراخ، لكنه في المجمل كان شديد الإقناع بصدق مرضه العضوي والنفسي، في الوقت الذي لعبت فيه الموسيقى دوراً مهماً في رصد التموجات النفسية صعوداً وهبوطاً داخل بطل العمل، وهو أمر عاد أيضاً إلى مخرج العمل الذي قام بفنيات الاستعانة بالمؤثرات الصوتية، ما يعني أن الملا مشروع فنان متكامل يجمع إلى جانب الإخراج والتمثيل، مواهب فنية أخرى. في المقابل شكلت سيادة اللهجة الخطابية، ونبرة الوعظ والنصح بعيداً عن استثمار قدرة الفعل الدرامي على الاختزال والاستعانة بجماليات التلميح من دون التصريح المباشر، إحدى السلبيات التي اتفق عليها حضور «الزلة» الذين رأوا الملا شديد الإلحاح على إيصال رسالة شديدة الوضوح، عبر مواقف جاءت متكررة وحاملة المعاني الدلالية والنفسية ذاتها.
تويتر