رؤية إخراجية جديدة لمسرحية «مراديه» للراحل سالم الحتاوي. تصوير: تشاندرا بالان

«مراديـه» الحتاوي.. رثاء على خشبـة المسرح

كأن الكاتب الراحل ترجل عن الخشبة أول من أمس، في مقر ندوة الثقافة والعلوم في دبي التي تهيأت لاستضافة فعاليات ليلة وفاء لسالم الحتاوي، فدموع رفقاء المسرح ترقرقت في العيون، في ليلة أرادها مهرجان دبي لمسرح الشباب وفاء له، من خلال معرض وندوة لشهادات بعض المسرحيين وعرض لمسرحية «مراديه» التي كانت إحدى إبداعاته.

وقال الفنان عبدالله صالح الذي لم يستطع التغلب على انفعالاته «رأيت الحتاوي خلف الكواليس يُلقن بطلي العمل عبارات يحرص على إيرادها، رأيته مترقباً لانفعالات الجمهور بما وراء النص، شعرت بأنفاسه لا تفارقني، وأنا أغوص في (مراديه)، تكريم الميت مؤلم، عندما يكون هذا الميت ما زال حياً بيننا، هي لمسة وفاء شديدة القسوة لمحبيه».

 شجون

على الرغم من عرض «مراديه» سابقاً في أيام الشارقة المسرحية بإخراج لأحمد الأنصاري، وعرضها في دورة مهرجان الشباب الأولى برؤية إخراجية لعيسى كايد، إلا أن إخراج كايد لها أول من أمس، مستعيناً بممثلين جدد على خشبة ندوة الثقافة والعلوم في دبي، كان شديد الاختلاف.

وكان الحوار الذي سيطر على كل أحداثها بين ضابط خائن وجندي شريف يحرسان جزيرة شديد التأثير لدى الحضور، بكامل إيحاءاته القومية والأخلاقية، واستمر الجميع يغوص في خصوصية صياغة الحتاوي الإبداعية للنص، في وقت اجتهد فيه الجميع في كتم آهات الفراق ودموع حسرة الفراق، إخلاصاً لتقاليد الإنصات في المسرح، لكن المخرج الذي كان أحد أصدقاء الحتاوي المقربين، تمادى في إيلام الحضور عبر الاستعانة بمرثية غنائية أبدع كلماتها عبدالله صالح، وصاغ ألحانها ياسر مال الله، كان ذكر الحتاوي مع إسدال ستار «مراديه» إيذاناً بإطلاق محبس الدموع من حناجرها، لتتحول خشبة وقاعة المسرح لسرادق عزاء أخرى للفقيد الحتاوي. صالح والمر وبوملحة في جولة في معرض متعلقات الحتاوي. تصوير: تشاندرا بالان


وأكد مدير الفنون الأدائية في هيئة دبي للثقافة والفنون ومدير الإعلام في مسرح دبي الشعبي، ياسر القرقاوي، «الحتاوي كان هنا في أثناء العرض، قبل أن يغيب مع إسدال الستار». والقرقاوي هو مخرج هذا الحدث التكريمي. حالة أشبه بجلد الذات على خطيئة لم ترتكب، وجد فيها المسرحيون أنفسهم أمس، في ليلة الوفاء للحتاوي، ربما لأن الفنان بطبعه الفطري مرهف الحس، وربما أيضاً لأن سلاح الفن بكامل تأثيره كان حاضراً هنا، فالمعرض الذي استهلت به فعاليات الليلة، لامس شغاف قلوب رواده، فهذه القصاصة الورقية التي حرص على بروزتها الراحل هي مقال صحافي تنبأ منذ نحو 15 عاماً بمولد نجم الحتاوي في سماء الدراما المحلية، وتلك عالجت نقدياً إحدى نصوصه، أما هذا فسرير بكامل هيأته كان يحتفظ به ضمن الإكسسوارات المسرحية الخاصة به، وهذه كتابات لمشروعات لم تكتمل، وأخرى مسودة وخربشات نضجت على نار كتاباته الهادئة. وفي أحد الأركان القصية، صور مصغرة لبعض شهادات تكريمه حياً، أما كتبه ومؤلفاته فقد جُمعت أيضاً لتكون أحد شواهد بقاء أثر الحتاوي في المسرح والتلفزيون والإذاعة . الدخول إلى ندوة «الشهادات» في الحتاوي صاحبه تردد من بعض أصدقاء الراحل القريبين، خشية مزيد من الانفعال الذي هيأ له المعرض، لكن دافع التكريم تغلب على معظمهم في النهاية في الندوة التي كان متحدثاها الرئيسان، رئيس المهرجان وعضو مجلس إدارة هيئة دبي للثقافة الفنان عمر غباش، وأحد أقرب أصدقاء الحتاوي الفنان عبدالله صالح.

وحاول غباش أن يكون صلباً في تقديمه للندوة، وتطرق إلى مراحل تطور كتابات الحتاوي، بدءاً من مسرحية «أحلام مسعود» مروراً بـ«الياثوم»، وأعمال إذاعية وتلفزيوينة، مثل «وجه آخر»، وعرج على ملامحه الفنية، وأكد أن علاقته الوطيدة وتعاونه مع مختلف مسارح الدولة من دون الاكتفاء بالانزواء تحت مظلة مسرح وحيد هي إحدى الجماليات المهنية المهمة التي تحلى بها الكاتب الراحل، مشيراً بشكل خاص إلى رغبة سالم الحتاوي المستمرة في اكتساب مهارات جديدة، والدقة الشديدة في الإلمام بتفاصيل البيئات الحقيقية للشرائح المجتمعية التي يتطرق إليها.

مفردات محلية

وأعطى عبدالله صالح الندوة أبعاداً جديدة، حيث اقترب من حياة الكاتب الراحل، وكشف بشكل خاص عن الجانب الكوميدي في حياته، بادئاً بمفارقات من وحي اللحظة، عاشا فيها سوياً الحلم المشترك، منها السفر الأول لكليهما إلى القاهرة، وأحلام الاستمتاع بمسارحها العريقة في أثناء دعوتهم للمشاركة في أعمال أحد المهرجانات المسرحية، وفصّل صالح «كنا قد اتفقنا على أن نشاهد مسرحية «ماما أميركا» لمحمد صبحي، ففوجئنا بأن العمل كامل العدد لثلاثة أيام آتية، فذهبنا لمشاهدة مسرحية عادل إمام وظللنا واقفين في طابور لم ينته، فلم نجد أمامنا سوى حضور مسرحية هزلية لأحمد بدير هي «كداب يا خيشة»، ولم نعد ليلتها إلى الفندق إلا في الخامسة صباحاً، وبالكاد استطعنا حضور مسرحيات المهرجان الذي ابتعثنا بالأساس للمشاركة فيه».

وقال الفنان مرعي الحليان «على الرغم من حداثة سن الكاتب الراحل، إلا أنه استطاع أن يكون من أشهر كتاب الدراما الإماراتية، فقد أحيا الكثير من المفردات الأصيلة الخاصة بالبيئة الإماراتية، إلى درجة تدفع بعض من يطالع أعماله على المسرح إلى التساؤل عن معنى ألفاظ بعينها، خصوصاً فيما يتعلق بالجيل الشاب الذي يجب عليه ألا يفوت فرصة ترسيخ الحتاوي قدوة مهمة في الإبداع والإخلاص للعمل الدرامي، والمسرحي منه بشكل خاص، بعدما حلق بنصوصه في فضاء التميز خليجياً وعربياً.

وتحدث الفنان بلال عبدالله باقتضاب شديد، فقال «المسرح أحب الحتاوي، ومكتبه في مسرح دبي الشعبي أصبح مؤلماً بكل ما يحيل إليه من ذكرى دافئة للجميع، مع ذلك الرجل الذي رحل». ونوه أحمد الأنصاري الذي شارك في معظم أعمال الحتاوي بشكل خاص إلى كتاباته المشاكسة التي كانت تعالج الموضوعات المطروحة بحكمة درامية بالغة.

وأشار الفنان موسى البقيش بشكل خاص إلى مرونة الحتاوي الفنية، مفصلاً «رشح الحتاوي الفنان سعيد بتيجة لأحد الأدوار في مسرحية (عرج السواحل)، لكن مخرج العمل أحمد الأنصاري رشحني أنا للدور نفسه، وعلى الرغم من اقتناع الحتاوي بخياره، إلا أنه عندما شاهد التمارين المسرحية اعترف بأن الدور يناسبني أكثر من بتيجة، وهنأ الأنصاري باختياره لي». واختزل الدكتور محمد يوسف علاقته بالحتاوي قائلاً «لن أحذف اسمه من قائمة هاتفي النقال».

وقال بلال البدور كلمات قصيرة، لكنها مؤثرة، «نحن هنا كلما بزغ نجم كاتب نعيش مشاعر فرحة عارمة، وبقدر تلك الفرحة، يكون الحزن على فقدان كاتب جليل بحجم الحتاوي، لكن العزاء أن الراحل خلف لنا مكتبة مهمة من الأعمال والكتابات التي سيكون لها أثر فعال في مزيد من الثراء للساحة الدرامية الإماراتية بشتى مجالاتها، الأمنيات كانت تسير باتجاه احتضان مسرح الندوة الجديد لأحد أعمال الحتاوي، لكن القدر حسم أن يكون موعد تقديم هذا العمل في تلك الليلة التي يغيب فيها الراحل عنا بجسده ويحضر بإبداعاته»، وقدم البدور شهادة تقدير لابن الكاتب الراحل محمد سالم الحتاوي.

الأكثر مشاركة