مقاهي القدس العتيقة.. صوت الحكواتي
المحتلة مقاهي القدس العتيقة لوحات زاخرة بالحركة والتأمل. عالم فريد له سماته الخاصة، متشابك العناصر، يحوي بين جنباته اطيافاً مختلفة من الناس، فكان كل مقهى يمثل وحدة اجتماعية وإنسانية واقتصادية وسياسية، تصب فيه كل العناصر والأطياف التي يتشكل منها المجتمع الفلسطيني. وكانت المقاهي تواكب الأحداث عن قرب، وخلال الفترات التي تجري فيها الانتخابات النيابية أو البلدية، أو الغرف التجارية، يكون المقهى المكان الذي تنطلق منه الحملات الانتخابية، وتتركز فيه الدعايات. وكان للمقاهي المقدسية رواة يسردون على الحاضرين سير أبوزيد الهلالي وعنترة العبسي والظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة.
وحول تلك المقاهي وتاريخها وصورة القدس قبل قرابة 90 عاما، يصف الكاتب المقدسي محمود أبوغزالة صورة المقاهي في ذلك الزمن «كان يلتقي في المقهى ابن القرية وابن المدينة، الأمي والمتعلم، الفقير ومتوسط الحال، الموظف والتاجر. وكان البعض يخصص له زاوية معينة من زوايا المقهى، وهم من المعلمين والمثقفين، ترى الجميع يجلسون على مقاعد خشبية مصنوعة من القش متقابلين يتبادلون الأحاديث والطرائف»، مشيرا إلى أن بعضهم يتخذ المقهى مقرا ثابتا لأعمالهم التجارية،ويطوف الباعة الجائلون داخل المقهى يحملون بضاعتهم من أقلام حبر ونظارات شمسية وسلاسل حديدية للمفاتيح ومحافظ جلدية.
كان المقهى جزءاً من الحياة العامة المقدسية، يعيش الواقع، ويحكي الحدث القديم والجديد بتفاصيل ورؤية تختلف من شخص إلى آخر. وفي رمضان، كانت مقاهي القدس تعج بروادها، لا سيّما بعد صلاة التراويح، حيث كانت تستقدم رواة الملاحم الشعبية القديمة وسيلة للكسب المشروع أولاً ولجذب الزبائن.
ويوضح أبوغزالة أن «البعض يعزو انتشار فرق الملاحم الشعبية ليس في فلسطين فحسب، وإنما في أقطار عربية أخرى، مثل مصر وسورية والعراق، كونه رد فعل على الهزائم التي لحقت الشعوب العربية، فأبوزيد الهلالي انتشرت بعد الاحتلال البريطاني، والظاهر بيبرس بعد إخماد ثورة أحمد عرابي، بغية شحذ الهمم وتجديد العزائم، لأن الشدائد لا تفت من إرادة الشعوب».
ويضيف إن مقهى علون «باب حطة» من أشهر المقاهي في القدس، والتي كانت تستضيف رواة القصص أو الحكواتي، ومن أشهرهم الشيخ المرحوم صالح علي خميس الذي ولد في المدينة عام 1897 وترعرع فيها وأسس فرقة إنشادية خاصة في زاويته«المئذنة الحمراء» في حارة السعدية، فكان يجلس الشيخ خميس فوق مصطبة أعدت خصيصا للرواة يرنو بجسمه النحيل وملامحه الرقيقة وبشرته القمحية إلى المحتشدين، ويصغي الجميع «كنا قد تحدثنا يا سادة يا كرام عن فعل عنترة بأعدائه اللئام، واليوم نواصل معكم مسيرة الهمام ونزاله، فصلوا على النبي العدنان». وحول تاريخ تلك المقاهي، يقول أبوغزالة «لا يوجد مرجع ثابت يحدد تاريخ نشوء المقاهي، غير أنه من الأرجح أنه كان في الثلاثينات من القرن الماضي، كانت المقاهي آنذاك مصاطب خشبية يجلس عليه المرتادون، ثم تطورت وتحولت من المصطبة إلى استخدام الطاولات والمقاعد الخشبية المصنوعة من القش».
لعل سنوات الخمسينات من القرن الماضي كانت العصر الذهبي لمقاهي القدس،«كانت تجري فيها المناظرات والحوارات بين المتنافسين على انتخابات البلدية أو الغرف التجارية. فعند الانتخابات، كانت تتحول المقاهي إلى تجمع سياسي وطني، ومنها مقاهي زعترة وصيام ومنى مدخل باب العمود وعلون في باب حطة.
والمقهى الوحيد الذي حافظ على عدم إدخال أي نوع من أنواع اللعب هو مقهى أبوأحمد صيام، عند مدخل سوق العطارين في البلدة القديمة، حيث له رواده الخاصون، يجتمع فيه أصحاب التنباك العجمي ويحتسون القهوة ليس إلا لفترة زمنية قصيرة بهدوء وتأمل.
وعن سبب إغلاق العديد من المقاهي، أوضح أبوغزالة: «إثر احتلال القدس من القوات الإسرائيلية في حرب 1967 كانت بعض مقاهي القدس مكاناً لاجتماع بعض الشخصيات الوطنية والشباب المثقف بصورة سرية، للتدارس لمواجهة الاحتلال، أو لجمع التبرعات للمنكوبين. ولم يغب عن بال الاحتلال هذا الأمر ، فزرعت العيون هنا وهناك لرصد الاجتماعات والتحركات ومعرفة ما يدور في خلد أصحابها، وكثيرا ما كانت تداهم هذه المقاهي وتعتدي على الرواد، لا سيما الشباب بحثاً عن النشطاء».
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news