في رثاء القدس!

ثمّة متّسع بحجم مدينة القدس، وحجم بلادنا الطاعنة في حزنها العالي. وثمّة مساحة للبكاء، على القدس التي أخالها من متردّم الوجع، وقد أطفأ قناديلها الوضّاءات ليل العدو، وخذلان ذوي القربى وطعنات المتباكين على تمزيقها بشفار الموت الأثيم. لطالما رفعت المدينة أيدي الدعاء، بعد انخساف الفعل والتمكين من الأمّة التي منذ مائة عام، والقدس - طفلة السماء - تذرف أزهار الدم وينابيع الدمع على عتباتها، فابيضّت عيون المدينة من الدمع، ولا قميص ولا شهم يسندها على جدار الحرية والحقّ والعيش الكريم. ولا صريخ سوى أنين الأسواق، وغرغرة الصغار وعويل البيوت المنسوفة وباحات المسجد الأقصى الندّاهة لأحرار الأمّة والعالم، لكفّ يد المحتل عن سخونة دمها الذي رنّخ الحجارة العتيقة وذاكرة المكان والمعراج المقدس.

وها هي القدس صنو بغداد الشقيقة المنهوبة، في عناق الألم والانفتاح على الأمل وإرادة الصمود نحو التحرير الناجز، وقوس الغار الذي سيكلّل رأس الحرّتين الصابرتين المنازلتين بشموخ النخل وأوار التحدّي اللاهب. بعد عامٍ من الحزن الناهب والحصار الملغوم، ترفع المدينة مقولتها التي هي برسم الجميع، لقد خذلت، هذا الخذلان الذي طفح موتاً وتشريداً وجداراً أفعوانياً وإلغاء لهوية أهلنا والعصف على أشدّه.

على الرغم من سوءِ المنقلب، إلاّ أن كوّة الألم في اتساع، لأن المدينة تعوّل على صبرِها النبوي وقدرتها على المنازلة والتحدي. قلبها الجمرة ينازل مخارزهم الغليظة وطوطمهم المخاتل.

ومازال أهلنا في القدس يؤكدون التصاقهم بأهداب المدينة، ويحرسون نومها الملائكي من حراب الغزاة وأنيابهم الغولية الحمراء. تسند القدس رأسها إلى صخرة العروج، مستجمعة طاقة الخير والسموّ والعلو لتبقى على خطّ الكرامة وخط المواجهة وخط التحرير. وها هي القدس تقول للقريب وللغريب:

دعوتُمْ علي.. سأدعو لكمْ
وأفرشُ رملَ الكلامِ المُعافى
لخطوتِكُم في المدى..
وأتركُ قلبي على حالهِ عالياً
يُهَدْهِدُ لَيلَ البلادِ الكَظيمْ
وأَنفشُ عِهنَ الندى
طائفاً ورحيمْ
سأَدعو لَكُمْ
وأَدعو إلى ماءِ قصّتِكُم
جمهراتِ السباعِ البليغةِ
كي تُسْبِغُ الحُلمَ فوقَ نداءاتِكُم
وأدعو إليكُم جِمال المَحاملِ
ترفعُ أوجاعكُمْ كُلّما ثَقُلَت
وأنفخُ في طينِ هذي البلاد
اشتدادَ الضوابحِ عَدّاءةً صُعُدا
لأقمارِ الملاحمِ والمواويلِ السبيّةْ
دعوتُم علي.. سأدعو لَكُمْ
وأمنحكمْ وردةَ الرملِ أيها الأوفياءُ العصاة؟

تويتر