«السهول البيضاء».. كمّ من الدموع لصناعة فيلم
هناك أفلام تجبرك على كتابة قصيدة بدل المقال، دون أن يتطلب منك الأمر سوى وصف ما تراه أمامك على الشاشة، ولعل التحلي بالدقة سيضعك أمام نص شعري مأخوذ من شعرية بصرية، وعلى هدي تحويل الصور إلى كلمات.
تقديم كهذا يستدعيه فيلم الإيراني محمد روسولوف «السهول البيضاء» الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة المهر الآسيوي الإفريقي، وجائزة أفضل ممثل لحسن بورشيرازي عن دوره فيه، والذي كان من ضمن أفلام تلك المسابقة التي حملتها الدورة السادسة من مهرجان دبي السينمائي.
إننا أمام بحر أبيض، وجسد مغمور بالملح، السواد الذي تتشح به النساء يمضي كنقيض للبياض، بينما يمضي رحمة (حسن بورشيرازي) في قاربه وهو يجمع الدموع في قارورة، يمضي من مكان إلى آخر والدموع تتزايد وهو يصبها في قارورة أكبر تتمازج فيها دموع عشرات العيون الحزينة، ومصائر من زرفها معلقة بالبعيد، بأيام مغمورة بالملح، تعيش داخل كابوس طويل لا ينتهي، في نفق تنيره الشمس فيزداد عتمة، وكل ما في الفيلم ينطق بالكثير، يقودنا كما لو أننا نمشي في الشرايين، التي سرعان ما نكتشف أنها مقطوعة وثمة نزيف حاصل له أن يجرفنا، شرايين لا يدور فيها الدم بل الدمع.
لا يمهلنا فيلم روسولوف، فيضعنا أمام طقوس الأسى، نمشي مع رحمة في قاربه فإذا به في حضرة امرأة متوفاة تكون مغمورة بالملح، وهو بدوره يبدأ بجمع دموع الندب والحزن عليها، ومن ثم يأخذ جثتها في قاربه، وهو يقاوم طيلة الوقت الكشف عنها، ونحن لا نرى إلا قدميها وحذاءها الأحمر.
رحمة لن يقاوم كثيراً، سرعان ما ينزع ما يغطي الجثة فإذا به صبي على قيد الحياة، لا يطمح إلا للهرب من قريته والبحث عن والده، وقد احتال على الأمر وحل مكان الجثة، وأمام تهديد هذا الصبي لرحمة بأنه سيفضح ما كان سيفعله بالجثة، يقبل أن يرافقه هذا الصبي بشرط ألا يتكلم، بحيث يمسي صبياً أبكم وأخرس.
السرد السابق هو لبدايات الفيلم الذي سيجعلنا نلاحق رحمة متنقلاً بين أقوام غريبة تعيش عزلة قاحلة، وإلى جانب بحر ميت من شدة الملوحة، التي ستكون ـ أي الملوحة ـ قادرة على قتل من يسبح في مياه ذلك البحر.
سيكون علينا الاستمتاع بحكايا سرعان ما يكون رحمة شاهداً عليها، وهو يجمع الدموع التي تترتب على أحداثها، سنعثر على امرأة جميلة يجمع دموعها قبل أن تتم مراسم زفافها من البحر، ترسل وحيدة في قارب على أن يبتلعها البحر فتكون قربانه، ومن ثم يتم إلقاء القبض على الصبي الذي يلحق بها، محاولاً إنقاذها فيتعرض للرجم من قبل سكان قريتها، يحاول رحمة إنقاذه في اللحظة الأخيرة، مستعيناً بمعجزة أن يتكلم كونه يقدمه على أنه أبكم، لكن ذلك لن ينفع سيحتضر الصبي، ومن ثم يموت ويدفن في البحر بطريقة عجيبة، حيث يرمى به وقد ربط بحجر يبقيه في القاع وقد وضعت على صدره قطعة خشب ما أن تطفو حتى يدركوا أنه استقر في القاع، ولتكون قطع خشب طافية كثيرة دلالة على أننا في مقبرة بحرية.
هناك مجازات كثيرة يقدمها الفيلم، اكتشافات تقول الكثير، كأن نكتشف أن الفتاة الجميلة ـ التي يفترض أن تكون قرباناً للبحر ـ أصبحت زوجة رجل عجوز مقعد، بينما يقوم رحمة بغسل قدميه بالدموع التي جمعها، وإلى جانب ذلك يحضر ذلك الذي يتم تعذيبه لأنه يقول «إن البحر ليس أزرق»، ولكم في ذلك أمثلة لها أن تقودنا إلى هباء كل شيء ما دامت تلك الدموع العزيزة والمقدسة لن تجد مصيرا أسمى من غسل قدمي رجل مقعد له أن يرمز للكثير، وإلى جانب ذلك يحضر العقاب الذي يطال من يملك نظرة فردية تخرج عن نطاق نظرة القطيع والكثير ما يتسبب فيه فيلم مدجج بكل أنواع الجماليات والرموز والمجازات.
فيلم «السهول البيضاء» قصيدة بصرية مع تناغم كامل بين بلاغة المشاهد واللقطات ومجاورتها للمقولات المجازية التي تحشد كل شيء لتوصله إلى قدر كبير من الشعرية الفذة، وكل ذلك تحت ظل حكاية مرهفة.