السينما العربية 2009: فلسطين والباشاوات
النظر إلى الخلف قبل المضي قدماً في عام جديد، له أن يفتح الأبواب على مصاريعها أمام أفلام لا عد ولا حصر لها، والوقوع ربما في فخ الذاكرة التي تمارس ما تمارس من انتقائية، لكن في البحث عن ملامح إنتاجات السينما العربية لعام 2009 ستنحصر النظرة إلى الوراء بمزايا وخصائص لأفلام بعينها، لها أن تجتمع عليها أو تفترق عنها.
سؤال أولي يطرح نفسه يتمثل أولاً بمدى حضور السينما العربية عالمياً في عام 2009 ،ولعل الإجابة عن هكذا سؤال ستجعلنا أمام حقيقة مفادها وبالاعتماد على المهرجانات العالمية، أنها شهدت هذا العام حضوراً لافتاً بالمقارنة بالسنوات الأخيرة، دون أن يقودنا ذلك إلى التخلي عن حقيقة أن ذلك من البديهيات التي سقطت عنا أمام وطأة رداءة تهيمن على كل شيء، بمعنى أن تقسيم السينما إلى عربية وأخرى عالمية خطأ نمارسه لحفظ ماء الوجه على الأقل، فكل سينما هي بالضرورة عالمية شرط وفائها للفن السابع.
المنطلق الأساس الذي يمليه علينا ما شاهدناه من أفلام عربية في هذا العام، يقودنا إلى اعتبار أنها سنة فلسطينية بامتياز، وإلى جانب تلك الحقيقة فيمكن الحديث عن صحوة لافتة في السينما المصرية في اتجاه الخروج من نفق التخبط الذي تشهده «هوليوود العرب» أمام سطوة التجاري واصطدامه بحائط شباك التذاكر الذي يحجب أي أفق للتجريب أو المغايرة، أو تقديم مقترحات جمالية تدعو إلى تعددية ما أمام المشاهد، ولنكون أمام انتاجات لافتة هذا العام سعت إلى اختراق هذا الحاجز وتقديم ما له أن يكون معبراً مبشراً إن هو استمر ومضى بإنتاجات جديدة في عام 2010.
تأكيد أن السنة السينمائية العربية فلسطينية سيكون على شيء من الكم والنوع، ومعهما الحضور الذي تشكله هذه السينما عالمياً، بحيث يتحول فعل الكاميرا إلى أمل ما في توثيق حيوات يراد لها أن تغيب، ولتكون الشاشة الكبيرة مساحة مترامية لتقديم رواية موازية لرواية القتل والحصار التي تتسيد الرواية الرسمية أو نشرات الأخبار، في انحياز تام للإنسان الفلسطيني بوصفه من لحم ودم وليس مجرد رقم يندرج في إحصاءات القتلى والجرحى من جراء الغارات الاسرائيلية أو بيت سرعان ما تطاله الجرافات.
يمكننا الحديث مباشرة عن جديد ايليا سليمان الذي شارك في مسابقة مهرجان «كان» الرسمية، ونحن نتعقب معه سيرة ذاتية هي بالنهاية سيرة سرقة الوطن والانسان، بينما القفز في العصا يكون من فوق الجدار العازل، والمعتقل الفلسطيني المقيدة يده بيد جندي اسرائيلي يدفع إلى كون الأول يقود الثاني وليس العكس، مرارة سليمان وسخريته السوداء حيث «الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش»، ستكون أشد سودواية مع عودة ميشيل خليفي بعد انقطاع طويل بفيلمه «زنديق»، الذي حصل على الجائزة الكبرى في مسابقة المهر العربي في مهرجان دبي، وقدم من خلاله «رائد السينما الفلسطينية الجديدة» جردة حساب لا تخلو من القسوة للماضي والحاضر، مع تطلع خجل إلى مستقبل فلسطيني محاصر بشتى أنواع الاحتلالات الوطنية والاسرائيلية.
من خليفي وسليمان يمكن العبور إلى ولادة مخرجة فلسطينية مميزة هي شيرين دعيبس وفيلمها «أمريكا»، الذي حقق ما حقق من نجاحات، حيث حصل في «كان» على جائزة النقاد الدوليين، وجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة السينمائي مروراً بـ«سنداس» وغيرها من مهرجانات، وصولاً إلى عرضه في صالات الولايات المتحدة، وهو يقدم فلسطين المحمولة مع مهاجرة وابنها إلى أميركا، حيث أرض الأحلام التي سرعان ما تمسي أرض كوابيس من اللحظة التي تطأ فيها المطار، هي التي لا وطن لها، والخارجة من حواجز الاحتلال الاسرائيلي إلى حواجز النظرة النمطية إلى العربي بوصفه إرهابياً وابنها الذي سرعان ما يصبح اسمه في المدرسة «أسامة» في إحالة إلى أسامة بن لادن.
الأفلام الروائية الثلاثة سابقة الذكر تقابلها أفلام فلسطينية وثائقية كثيرة، قدم من خلالها رشيد مشهراوي فيلمه «الأجنحة الصغيرة»، التي وجدها ترفرف به إلى بغداد في مقاربة لأطفالها المتماثلة مصائرهم مع أطفال غزة، كما شكلت عودة محمد بكري إلى خلف الكاميرا وهو الدائم الحضور أمامها نقلة فارقة في فيلم حمل عنوان «زهرة»، ولتتواصل المآسي الشخصية بوصفها حاملاً شرعياً لمآسي شعب من خلال فيلم رائد أنضوني «صداع» بينما مضى سمير عبدالله في «غزة مباشر» خلف الصحافيين الذين غطوا أحداث غزة ومعها صور تعرض للمرة الأولى تضاف إلى خزان صور محتشدة بالألم والوحشية الاسرائيلية.
الاستعراض السريع لتلك الأفلام سيضعنا مباشرة أمام حقيقة أن السينما الفلسطينية في تطور لا يستدعي الانتباه، بل المتابعة واللحاق بما تحققه منذ زمن بوصفها أداة بقاء واستمرارية، ومبحثاً جمالياً يزداد رسوخاً في كل عام، وتحديداً مع أفلام تأتي من داخل فلسطين التاريخية متسلحة بمكتسبات جمالية على تناغم مع حجم ما تقوله، مع تأكيد تفوقها الروائي وعلى صُعد عدة.
بالانتقال إلى السينما المصرية تظهر انتاجات كثيرة تستحق الثناء، سواء كونها مشغولة بهموم بصرية تعيد لهذه السينما بهاءها على الصعيد الفني، أو كونها تجتمع على الحنين إلى ما قبل ثورة يوليو، أي إلى زمن الباشاوات، وعلى شيء يستدعي التوقف مطولاً أمام واقع ترصده أفلام هذا العام تستدعي هذه العودة، بوصفه يحمل التشويه والتخريب، بحيث يأتي الماضي بمثابة فسحة أمل تتسع لصرخة تقول: مصر لم تكن كذلك، لقد تغير كل شيء، ونحو الأسوأ الذي يزداد تفاقماً.
ثلاثة أفلام مصرية مميزة حملت هذه المقولة، في «المسافر» لأحمد ماهر، الماضي وردي مليء بالرقص والموسيقى بينما يمسي الحاضر مساحة للتزمت الديني، فيلم له أن يمضي خلف ثلاث مراحل تمت مواجهتها بحملة نقدية شعواء، لم تغفر له جمالياته ولا المقترح الجمالي الذي قدمه لدرجة تم فيها تحميله - على سبيل المثال - وزر فوز الفيلم الاسرائيلي «لبنان» بالأسد الذهبي في دورة مهرجان البندقية الأخيرة، كون «المسافر» كان من الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية ولم يستطع سرقته منه! وغير ذلك من هجمات تعرض لها افتقرت في أحيان كثيرة المنطق الذي سيتردد كثيراً إن تم تحكيمه أمام جمال هذا الفيلم الذي استقبل بظلم مسبق.
الماضي أيضاً سيشكل ملاذاً وردياً مع تجربة أحمد العبدالله اللافتة في «هليوبوليس»، والتي وعدا كونها عرفتنا بمخرج مميز وفيلم جميل، فإنها تزيد من تعزيز السينما المصرية المستقلة وعلى شيء من الرهان عليها الذي يلتف حوله عدد من المخرجين المصريين الشباب، ولتحضر «مصر الجديدة» حاملة الحنين أمام فداحة الحاضر، ومعلماً مسكوناً بجماليات مفتقدة سرعان ما تمنع العودة إليها، طالما أن الضابط يقف حائلاً بين تصوير مبانيها القديمة.
هذا أيضاً سيحضر بقوة مع الفيلم الوثائقي لتهاني راشد «جيران» لكن هذه المرة من «غاردن سيتي» وما آل إليه هذا الحي الشهير في العاصمة المصرية، كما لو أن راشد تسرد تاريخ مصر ومتغيراته انطلاقاً من هذا الحي وضيفه ثقيل الظل المتمثل بالسفارة الأميركية.
باشاوات تلك الأفلام سينصتون جيدا لشخصية عبدالرحيم التي قدمها مجدي أحمد علي في جديده «عصافير النيل» المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للروائي الشهير إبراهيم أصلان، حيث جماليات عيش الفقراء والفلاحين على ضفاف النيل، وعبدالرحيم الذي يصطاد من النيل عصفوراً بدل السمكة، دون أن ننسى فيلم كاملة أبوذكري «واحد صفر»، وهو يضع في المرمى حيوات ومصائر يجري تسديده بإصابات محققة وغير محققة.
نستكمل في الغد رصد انتاجات سينمائية عربية لها أن تستكمل خارطتها، بحيث نتابع مع انتاجات إماراتية وسورية ولبنانية وعراقية، مع التركيز أيضاً على السينما المغاربية التي سنجد في انتاجاتها فيلماً يمكن وصفه بالأهم هذا العام.