مأساة فتاة من «هارلم»
«بريشوس».. الشر من أسباب البدانة
يدعونا فيلم Precious (بريشوس) المعروض حالياً في دور العرض المحلية، إلى مقاربة شخصية محمّلة بكل دواعي الغياب، وعلى شيء من المفارقة بين اسمها والمعنى، بين أن تكون غالية وثمينة وذات قيمة كبيرة ـ ترجمة كلمة بريشوس ـ بينما هي في الواقع مهملة ومهمشة وأكثر من ذلك، كما أن زمن الكتابة عن هذا الفيلم الأميركي المستقل تأتي قبل حفل الإعلان عن جوائز الأوسكار لهذا العام بساعات، بمعنى أن القارئ سيكون قد علم بما ناله هذا الفيلم من جوائز قبل قراءته هذه الأسطر كونه مرشحاً إلى ست «أوسكارات» بما فيها جائزة أفضل فيلم وإخراج، وأفضل ممثلة في دورٍ رئيسٍ وأفضل ممثلة في دور ثانٍ.
هذه الترشيحات مستحقة تماماً لفيلم مصاغ بحنكة مخرج اسمه لي دانيالز، ولها أيضاً أن تدفعنا إلى مشاهدة فيلم خاص جداً مأخوذ بعوالمه المتأتية أولاً من شخصية الفيلم الرئيسة، أي «بريشوس»، (غيبوري سيديب مرشحة عن دورها هذا لأوسكار أفضل ممثلة في دور رئيس) التي يتمحور حولها عالم كامل له أن يبدو لنا أنه من صنيعها وبدانتها المفرطة، وما له أن يشكل قباحة شكلها، وطاقماً كاملاً من المآزق والمآسي التي لا تنتهي إلا بما يضاف إليها من جديد بهذا الخصوص، بمعنى أن اشراقات الأمل التي تتبدى في حياتها لن تتجاوز التقاط الأنفاس، كون مآسٍ جديدة ستكون دائماً بانتظارها، ولكم حين مشاهدة الفيلم أن تتركوا الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام المزيد والمزيد من الاكتشافات التي تحيد بحياة بريشوس عن استكمال ضوء أو التماعة أمل، كون الأمل مسألة طارئة ومؤقتة في حياتها المعجونة بالخيبات.
بريشوس فتاة زنجية لم تتجاوز الـ16 من عمرها، إنها بدينة بإفراط، تحب مدرسها الأبيض، وتتوهم أنه يحبها أيضاً، فما من مجال لأن تكمل حياتها إلا بالاعتماد على أحلام يقظة تخفف من وطأة كل شيء عليها. بريشوس حامل بولدها الثاني ـ لا تنسوا عمرها ـ وهي عاجزة عن تعلم أي شيء، وتواجه صعوبة في القراءة والتهجئة، وهي تعيش مع أمها (مونوكيو مرشحة عن دورها هذا لأوسكار أفضل ممثلة في دور ثانٍ) التي تتعامل معها كما لو أنها خادمتها، وتواظب على اضطهادها وضربها باستمرار، تجبرها على الأكل لتبقى على ما هي عليه، لا بل إن اللقطات التي تكون في بيت بريشوس ووالدتها تكون على الدوام مظلمة ومدعاة لمنح المشاهد شعوراً بالانقباض، كون البيت مغلقاً على الدوام ولا تدخله الشمس، ولا شيء يجري بين جدرانه إلا الأكل والعراك ومشاهدة التلفاز، كما أن اللقطات تأتي في أحيان كثيرة من خلف شباك متسخ، بينما بريشوس تواصل أحلام يقظتها، فهي تارة نجمة كبيرة، وتارة أخرى تعيش قصة حب عاصفة في مخيلتها وغير ذلك مما تستيقظ منه عبر تدخل عنصر واقعي، فهطول المطر في أحلامها يكون من خلال تلقيها ماء يوقظها، وفي انتقال دائم بين وردية الأحلام وسوداوية الواقع.
يتم نقل بريشوس من مدرستها إلى مدرسة تأهيلية خاصة، وهناك تمنح مساحة أمل طفيفة من خلال مدرستها رين (بولا بوتن) ورفاقها في الصف، ولنكتشف مع توالي أحداث الفيلم، أن بريشوس حامل من جراء اغتصاب والدها لها، وأن ابنها الأول المصاب بـ«متلازمة داون» هو أيضاً نتاج تلك العلاقة المحرمة، وأنا اضطهاد أمها لها متأتٍ من شعورها بأنها سرقت منها زوجها، وصولاً إلى ما يشكله ابن بريشوس بالنسبة لأمها مصدراً للحصول على إعانة اجتماعية.
تضع بريشوس ولدها الثاني، ومع هربها من بيت أمها يتسع عالمها لمساحة استقلالية بسيطة تأتي من مساعدة معلمتها والمحيطين بها، بحيث تتمكن من تربية ابنها وعدم التخلي عنه، لكن سرعان ما يأتي اكتشاف آخر يزيد السواد حلكة، المتمثل في أن والد بريشوس مصاب بمرض نقص المناعة «ايدز»، وبالتالي فإنها هي وأمها مصابتان به، لكن مع نهاية الفيلم تبقى بريشوس مصرة على اكمال ما بدأت به ألا وهو تربية ابنيها بعيداً عن أمها.
فيلم «بريشوس» المأخوذ عن رواية بعنوان «بوش» مبني وفق تدرجات الأسود، لكن بعيداً عن فجائعية لها أن تسمعنا صوت النواح بوصفه مولداً لمشاعر مزيفة، إنه مبني وفق الشخصيات ودوافعها ومدى قدرتها على الإيغال عميقاً في الأذى بناء على رؤية كل واحدة منها، كما أن الأمل الذي يُبنى يأتي وفق تلك الآلية التي تجد في حي هارلم مساحة لتقديم واقع متسلح بكل أنواع القسوة والتشظي الاجتماعي، مع فتح الباب دائماً على مواصلة الحياة مهما بدت الأبواب موصدة في وجه بريشوس، بحيث تبدو مآسيها من صنيع يديها في البداية، كأن نعتقد أنها كامنة بالبدانة المفرطة والشراهة وغير ذلك، لكن حتى هذا المظهر الخارجي سيكون من صنيع محيطها ومعه كل مآسيها التي تجتاحها حتى نهاية الفيلم.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news