‏‏‏«الغجرية اليتيمة».. من طفلة شوارع إلى فنانة عالمية

ليتا كابيلوت: أنا ابنة كوكب يدعى الأرض‏

ليتا كابيلوت: فني حقيبة معبأة بالأحاسيس الدفينة. من المصدر

‏من قاع مدينة برشلونة القديمة، صعدت الإسبانية ليتا كابيلوت، لتصبح فنانة عالمية، تحقق إنجازات جمالية بموهبة استثنائية، وطاقة خلاقة. إذ تعرض أعمال لها في مدن عالمية، من بينها دبي وباريس ونيويورك وهونغ كونغ وميامي ولندن والبندقية وسيؤول وموناكو.

وترى ليتا التي تفتتح، اليوم، معرضاً لها في مدينة ماستريخت في جنوب هولندا، أنها «ابنة كوكب الأرض»، في إشارة إلى حقيقة التعايش بين البشر الذين يسكنون في بيت واحد يدعى «الأرض». وتؤكد أعمال الفنانة التشكيلية مناصرتها للمهمشمين، وأن فنها صوت هؤلاء الذين تصفهم بأنهم «أبطال الخسارة والفوضى»، داعية إلى الرأفة بأطفال الشوارع، إذ كانت واحدة منهم. وتوضح أنها ترسم لتكشف عن «الجرح الإنساني المفتوح». وتقول: «فني حقيبة معبأة بالأحاسيس الدفينة».

أمام الأعمال التشكيلية للفنانة ليتا التي درست في أكاديمية ريتفيلد للفنون الجميلة في هولندا، يصاب المشاهد بصدمة، انها لوحات ومنحوتات تصور «الضوء المجروح» في روح البشر. انها أعمال «تكهرب» وتصعق ويبقى تأثيرها منقوشاً في الذاكرة، وهي نداءات من أغوار النفس، وسيرة من الألم الذي تعتبره «أصل مشاعر الحنان والعزلة والحب».

في برشلونة المستلقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وفي 24 أكتوبر من عام 1961 ولدت ليتا، ولم تتوقف صرختها الأولى في وجه القهر والظلم والفقر والتهميش والموت. كانت غجرية يتيمة من أطفال الشوارع، إذ إنها لم تعرف وجه أبيها ولم تعش مع أمها، ولم تعرف سوى الغياب. عاشت في رعاية جدتها التي سرعان ما خطفها الموت، بينما ليتا لاتزال في الثامنة من عمرها، فاختبرت مبكراً الفقدان والوحشة واليتم والقسوة والألم والتيه في دروب الحياة. دخلت دارا للأيتام، كما لو أنها «مقطوعة من شجرة».

 تقنية الجلد البشري

 

تستخدم الفنانة الإسبانية ليتا كابيلوت التي تقيم في هولندا تقنية خاصة في لوحاتها توصلت اليها بعد بحث طويل، إذ تشتغل على سطح اللوحة بحيث يبدو مثل جلد بشري. وتقول إن «التقنية التي طورتها على مر السنين مشفوعة بكثير من القلق والبحث ومساعدة مختبرات كيميائية جاءت ثمرة شغفي ورغبتي في إكساء شخصياتي ملمس جلد الإنسان، مع إظهار الندوب الصغيرة»، موضحة أن «النشاط العضلي في صرخة أو ابتسامة سريعة جداً ما هو إلا بحث لا تستطيع عيوننا إيقاف تلك الآلاف من الخطوط التي تشكل صرخة أو قبلة».‏

 

وإذا كان الإنسان يبحث منذ ولادته عن «جنة ضائعة»، فإن ليتا عثرت مبكراً على «فردوسها الشخصي المفقود»، كأن الألم مفتاح.

وكانت زيارتها الأولى لمتحف «برادو» في مدريد الذي افتتح عام 1819 وبضم أكثر من 3000 لوحة لكبار الفنانين، مفتاحاً جديداً في يد الطفلة ليتا التي لا تتوقف عن الأسئلة، إذ جذبتها أعمال رامبرانت وغويا وريبيرا وفلاسكويز. وفي المتحف عرفت أنها ستصبح فنانة، في يوم ما. وكان حدسها المبكر صحيحا، إذ أقامت معرضها الأول في مدينتها، شاهدة الأوجاع، في عام ،1979 وهي لم تكمل عامها الثامن عشر. وبعد ذلك غادرت إسبانيا، لتعيش في هولندا، كما لو أن روح رامبرانت قادتها إلى هناك.

ليتا ذات الملامح العربية، ظلت وفية للمهمشين، لأطفال الشوارع، ولمن تختبر أجسادهم الليل والوحشة والضياع والحرمان والجوع والألم، ففي أعمالها سواء في الرسم أو النحت أو الغرافيك، ثمة نداءات عميقة من أرواح معذبة. إنها تصور العوالم الجوانية للإنسان، عبر وجوه بشرية تقطر ألماً.

تقول الفنانة ليتا كابيلوت لـ«الإمارات اليوم» عن وجوه المهمشين في أعمالها «في منحوتاتي ولوحاتي ثمة وحدة ووحشة. أعمالي تهتم بأولئك البشر الذين يشكلون جزءاً من كينونتنا الإنسانية، حيث يتعلق الأمر بأولئك الذين لا صوت لهم، وبأولئك الذي لا نريد رؤيتهم والذين لا نفسح لهم في المكان والذين لا يعترف بهم»، مؤكدة وقوفها إلى جانب المشردين الذين يعيشون في العتمة، وفي الشوارع الخلفية للحياة، «أنا ارسم الكائنات التي ترتحل ليلاً، أبطال الخسارة والفوضى، البومة العمياء، ارسمهم واعطيهم صوتاً واكشف عن ذلك الجرح المفتوح دائماً فيناً، نحن الكائنات البشرية، وجعله مرئياً».

أصل المشاعر

ترى ليتا أن «الألم هو أصل لطيف كامل من مشاعر الوهن والعزلة والحنان والعجز والحيرة والحب. كل ذلك يشتق من جذر الألم». وتوضح «الألم ذكاء وحكمة، إذا لم نتألم ولم يثر هذا الالم اهتمامنا، فليس هناك فرق بين الإنسان والجرذ. فالمنظومة الأخلاقية يجب أن تؤلمنا إن شئنا أن نسمي أنفسنا كائنات بشرية».

ترسم ليتا كما لو أنها ترقص الفلامنكو، ترسم بكل جسدها وانفعالاتها في لوحات كبيرة المساحة. وتقول في قصيدة لها «ومضة برق بين أصابعي»، كما لو أنها إشارة إلى طاقتها الإبداعية التي بها ترشق بياض اللوحات بجمال بري. إذ إنها شكلت في مرسمها ما يشبه «جزيرة على شكل منصة تمكنني من التوغل في نسيج اللوحة. ثلاث خطوات إلى الخلف وأقع عن المنصة، خطوة إلى الأمام وألج في عالم لوحتي. ارسم بجسدي وبكل كينونتي. نعم، إنها رقصات شغوفة مع فضاء اللوحة».

ففي أعمالها طاقة شعرية وعاطفة وصراخ عميق وحرية وجرأة وإيقاعات قوية، ترسم مدججة بالموسيقى والحب والألم والذاكرة، ترسم وجوها متشققة من المآسي. اختارت الوجوه فضاء تعبيرياً مفتوحاً، إذ إن للوجه البشري طاقات تعبيرية غير محدودة، فهو مرآة عميقة ومستودع الإشارات والمعاني. إنها ترسم بلاغة الوجه وتضاد الحياة والموت، وترصد العوالم القصية في نفوس البشر، وتغور الى المتواري والغامض والبعيد والخفي في الأرواح المتعبة. إنها تدعو البشر الى مشاهدة «مرايا البئر» بعد خلع الأقنعة. تبحث في الحقيقة المتلاطمة مثل أمواج عاتية في عتمة النفس. تقول ليتا «الوجوه مرايا تامة أو متصدعة». وتضيف شعراً «لدي صور لي في كل زاوية. مرايا تعكس خسارات مستحيلة. أنت تشبهني. ونحن نشبه الجميع. الصور ذاتها في وسائل الإعلام. والعيون نفسها تلك التي نشتهي كثيراً».

ذاكرة

ليتا كابيلوت التي أقامت نحو 33 معرضاً فردياً، وشاركت في أكثر من 80 معرضاً جماعياً، تغوص عبر فنها في النفس والزمن والجسد والذاكرة، لترسم الضوء المجروح في روح الإنسان، وتعمل على «تظهير» العوالم الخفية والمهجورة في ارواح البشر. وتقول: «فني حقيبة ملأى بالاحاسيس الدفينة»، موضحة أن الذكريات «تؤثر في الإبداع، إذ إن ذاكرة الإنسان، بما فيها ذاكرة الجسد، تتفاعل لدى المبدع، إذ يتعين على الفنان الحقيقي استخدام سائر التجارب المودعة في خزان الذاكرة».

حول ذاكرة طفولتها، تضيف ليتا التي ترى أن الفنون تقدم للمضطهدين والمشردين والمنسيين التضامن ونداء بالرأفة بالإنسان، «طفولتي هي القصة الكونية لأي طفل شارع في العالم. لكن من الصعوبة بمكان بعد كل هذه المسافة الزمنية والخبرة والوعي وصف حالة مثل حالة أطفال الشوارع، على الرغم من أنني كنت واحدة منهم»، مشيرة إلى أن الوعي الجديد «يغربل» الذكريات، والحياة تمحو وقد تجمّل تلك الذكريات التي يستحضرها الناس. وتوضح أن «أطفال الشوارع لا ينشغلون بما لا يملكون، إذ لا يأبهون سوى لحياتهم في اللحظة ذاتها، أو في إطار اليوم أو الساعات القريبة المقبلة. ولذلك، فإن أي تفاصيل يمكن أن أسوقها لك في الوقت الحالي ستكون قد مرت عبر غربال وعي ليتا ومنظومتها الأخلاقية القائمة في هذه اللحظة، لاسيما وأنني لا أدقق في ذكرياتي كثيراً».

 

 

ملامح

عن الملامح العربية في تكوينها الثقافي والجسدي، تقول الفنانة الإسبانية ليتا كابيلوت: «لدي ملامح عربية، خصوصا أنفي وعينيّ السوداوين. فأنا غجرية، ولدى غجر إسبانيا جذور عربية، فضلاً عن حبي للموسيقى العربية ورقص الفلامنكو، والفنون العربية عموماً. لكن ما أريده وأرغب به حقاً وبالعمق هو أن أكون ابنة وشقيقة هذا الكوكب الأرضي الرائع».‏

شعرية التشكيل

ليتا كابيلوت، ابنة إسبانيا، بلد ثيرفانتيس ولوركا وغويا وبيكاسو وسلفادور دالي وخوان ميرو وغاودي وأنتوني باتيس والشعراء الجوالين «ترابادور» تسجل اليوم اسمها في هذه القائمة من المبدعين الكبار الذين أضافوا إلى الحياة الإنسانية معنى جديداً.

في أعمال ليتا شعرية مبثوثة، كما لو كانت ترسم قصائد تلك الوجوه، أو كأنها ترسم «شكل الروح في المرآة»، كما جاء في قصيدة للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.

وحول توأمة التشكيل والقصائد، تقول: «الشعر نشيد مرجانات الروح. عندما أنهي لوحة واشعر بأني وحيدة، أعيد رؤية واكتشاف ما تدفق من روحي، فأنا اقـرأ في اللوحـة دوماً، من خلال العيون والفم والإيحاءات والألوان والخطوط وهـي تتصارع أو تبحـث لنفسها عن قصيدة».‏

 

تويتر