أهلها لا يسهرون لأكثر من العاشرة.. وينامون في أفنية منازلهم

الناصر مدينة تستحم كل صباح

الطائرة التي قتل فيها نائب الرئيس السوداني الزبير صالح لاتزال مكانها منذ التسعينات. الإمارات اليوم

كل شيء هادئ في السودان في الشمال، كما في الجنوب، في القرى الكثيرة كما في المدن القليلة، حيث يبدو للمشاهد الغريب حقاً أن لا ضرورة لكل ما يبتدعه السياسيون من فروق مفتعلة قامت الحروب لسنوات بسببها.

المسلمون والمسيحيون وأبناء الأديان الإفريقية كلهم يجلسون على الأرض يأكلون الطعام نفسه ويتحدثون اللغة نفسها ويحيطهم الجوع القاسي ذاته، نعم كل شيء هادئ في السودان لأن الشمس تجمعهم تحت لهيبها الحارق.

ارتفعت مئات الحناجر الضعيفة ترحيباً برئيس حركة تحرير السودان جناح التغيير الديمقراطي لام أكول ـ الذي صحبته في الجولة أو بالأدق ذهبنا في حمايته ـ الى مدينة الناصر الواقعة داخل ولاية أعالي النيل في الجنوب، الولاية هي المعقل التقليدي للاستاذ في جامعة الخرطوم الدكتور لام أكول، ليس لأنها مسقط رأسه فقط بل لأنها المكان الذي يضم كتلة واسعة من أبناء «قبيلة الشُلك» التي ينتمي إليها الدكتور لام، التي عانت ويلات الحروب عبر عشرات السنين، فتركت جوعاً هائلاً وفقراً يحتاج إلى عمل طويل وتنمية قد لا تكفيها عقود عدة.

المدينة التي يبلغ سكانها عشرات الآلاف من السكان، تعيش على الصيد والرعي وتربية البقر، منازلها المطلة على نهر «الصوبات» لا تعدو أن تكون مجموعة من العشش المبنية من الغاب، اسمها «قُطية» والجمع «قطاطي» أغلب أطفالها يرتدون الأسمال البالية، رجالها يعانون الأمرين للحصول على وجبة واحدة في اليوم، أما التفافهم حول رمزهم الجنوبي ـ والمختلف مع الحركة الشعبية ـ لام اكول فهي التي دفعتهم لانتظاره منذ الصباح تحت الشمس، التي وصلت إلى درجة حرارة تجاوزت الـ40 درجة على الأقل، بينما تحولت الشوارع إلى غبار كثيف تحت وقع خطوات الضيف والأهالي الذين رافقوه راقصين رقصة محلية قديمة لا يحظى بها عادة سوى كبار المسؤولين.

مدن الجنوب السوداني تبدو بعيدة عن صورتها السياسية التلفزيونية فالقبلية هي كل شيء هنا في أعالي النيل، ولم تكن صدفة أن يعلن زعيم الحركة الشعبية سلفاكير تجميد حملته في الانتخابات الأخيرة في الناصر، وعدم تجميد الأخير حملته في المناطق التي تسيطر عليها قبيلة الدنكا التي ينتمي إليها سلفاكير، فالكل هنا قبائل، واللافتات السياسية هي مجرد تمويه لواقع الأشياء.

معظم الخطابات التي ألقاها الدكتور لام أكول على مريديه في الجنوب كانت باللغة المحلية، تخللها في كثير من الأحيان تصفيق حاد من أكف أضعفها نقص الغذاء، أما ضحكات الجمهور فقد كانت لإعجابهم بسخريته من الأداء المالي والإداري لمنافسه التقليدي سلفاكير، الأهالي يشعرون بالألم لأن الحكومة الحالية لم توزع بالعدل أموال البترول التي حصلت عليها بموجب اتفاقيات سرعان ما تحولت إلى نهضة في بعض مناطق الجنوب مثل جوبا. بينما لم تلمس بأي قدر مناطق أخرى مجاورة لا تنتمي إلى قبيلة الدنكا ما يذكرهم بتاريخ طويل من الاستبعاد مارسته حكومة الشمال وتعيده الآن حكومة الجنوب.

الحكومتان الشمالية والجنوبية تناستا المدينة الملقاة على نهر «السوباط» منذ مئات السنين وتناستا الطائرة الملقاة على ضفته منذ منتصف التسعينات، وهي الطائرة التي سقطت بالنائب الأول للرئيس الزبير محمد صالح المعروف بالرجل القوي في النظام، وهي الوجهة السياحية الأولى في هذا المكان المنسي نظراً إلى النهاية البشعة التي انتهى إليها واحد من أقوى الرجال في السودان. الحكومتان تناستا أيضاً ترميم المسجد الوحيد في الناصر، الذي بناه المصريون في الناصر ايام الملك فاروق، ويحكي قصة كفاح الإسلام في الجنوب، ويقوم على خدمته عجوز «مندكور»، كما يسميه الجنوبيون العرب. «الناصريون»، نسبة إلى المدينة، ينامون مبكرين جداً، قبل العاشرة في كل الأحوال لأن الكهرباء تأتيهم من مولد وحيد يعمل منذ السادسة وحتى العاشرة مساء، بعدها لا تسمع سوى أصوات الطيور والحشرات الطائرة التي تهبط فوق السقوف المصنوعة من الألمنيوم، بعدها تسقط السماء ذات النجوم اللامعة نوعاً خاصاً من المطر يمكن تسميته بمطر الحشرات، التي تنام هي الأخرى في التوقيت نفسه، هادئة ووديعة، أغلب سكان المدينة ينامون رجالاً ونساء في الأحواش المواجهة لمنازلهم التي ترتفع درجة حرارتها في الساعات الأولى من الليل، ويكون «شخير» النائمين سيد الموقف في المدينة خلال ساعات الليل. تضرب شمس الصباح أهل الناصر فيستيقظون مبكرين للنزول عراة في النهر رجالاً ونساء يخلعون ملابسهم للاغتسال من عرق المساء، بعضهم يغسل ملابسه في الماء الجاري ببطء، وبعضهم يعبئ الماء الذي سيغتسل به في البيت أو يشربه الفقراء منهم دون خجل من الأمراض، أما الصيدلية الوحيدة في الناصر، فهي عِشة أخرى من عشش الفقراء الذين يشترون زجاجة الماء بما يعادل جنيهاً سودانياً، ويعيشون على الأسماك التي يصطادونها من مفخرة قبيلتهم ومدينتهم الفقيرة نهر «السوباط»، أما دورات المياه بالمعنى المعروف فلا وجود لها هنا حتى في بيت الوزير ـ أحد كبار المسؤولين في المدينة وأحد أغنيائها ـ فمعظمهم يستعمل عششاً تشبه حياتهم المنسية في لعنة الجنوب.

تويتر