سوق العرصــة.. صـندوق أســــرار وحكايا
لأن القلب موطن الأسرار، فليس أقدر من سوق العرصة على حفظ أسرار الشارقة. مكان يبوح بتفاصيل كثيرة، ويمكن لزيارته أن تعطي رصداً حقيقياً لحركة تطور مدني شهدتها المنطقة برمتها على مستويات التفاعل الحضاري والحراك الإنساني كافة. يمتد تاريخ هذه السوق إلى ما يقرب من 200 عام ،وهي من أقدم الأسواق الشعبية في الإمارات بل هي أقدمها على الإطلاق، ما أهّله ليصبح مزاراً سياحياً ووجهة لأي باحث في تراث الدولة والدول المحيطة بها أو التي ترتبط معها بعلاقات تاريخية تمتد إلى التجارة والصناعة والسياسة.
ويقول مدير إدارة التراث والشؤون الثقافية في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة عبد العزيز المسلم، إن «هذه السوق أقدم تجمع تجاري في الإمارات، وقد ذكرها الرحالة الذين مروا بالمنطقة، كما وردت بكل الرسومات والخرائط القديمة التي تناولت الفضاء الجغرافي للشارقة وما حولها من مدن» ويؤكد المسلم أن «السوق تعاقبت عليها أجيال مختلفة من أصحاب المحال والتجار والزبائن، حتى أصبحت وجهة للنخب من هواة جمع التحف والمهتمين بالتاريخ من مصر والعراق والمغرب وإيران، كما تعد مقراً لعقد صفقات تجارية مهمة».
للمشاهدة فقط
«للمشاهدة فقط» هذا هو الشعار الذي يرفعه محل «عجائب البحار للتحف»، المملوك للمواطن عبد الله الشويحي، الذي يمتلئ بالعديد من أنواع الأسماك والتحف البحرية والمرجان واللؤلؤ، التي يرفض صاحب المحل بيعها للأفراد سواء كانوا سياحاً أو مواطنين، مكتفياً بعرضها فقط مهما بلغت قيمتها أو قيمة الأرقام التي قد يعرض المشتري دفعها في المقابل. ويقول المشرف على المحل ويدعى عبدالشكور (هندي) مبدأ عدم بيع المعروضات هو سياسة صاحب المحل الذي لا تأتي التجارة في مقدمة أولوياته، فهو يملك محال أخرى في دبي، أما محل سوق العرصة فيعده مزاراً سياحياً وتراثياً فقط. ويعد البحر جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الإمارات وأهم منافذها على العالم، حيث أنشطة الملاحة والصيد ورحلات البحث المتواصلة عن اللؤلؤ، وغيره من الثروات البحرية، التي كانت تشكل تقريباً كل عناصر الحياة في الماضي. وقد استخدم المواطن القديم الحجر البحري في بناء بيته، وهو مستخدم كذلك في التصميم الداخلي للمحل، كما اكتسب رزقه من الصيد وما يجلبه البحر من خيرات يتمثل معظمها في مقتنيات هذا المحل القائم بقلب سوق العرصة. ويشرح عبدالشكور كيفية التعامل مع الكائنات البحرية المنتشرة في أركان المحل مشيرا إلى انبهار الجميع بها سواء السائحون الأجانب أو زوار السوق بشكل عام، وحتى أطفال المدارس الذين يأتون في رحلات لزيارة المحل ومشاهدة المرجانين الأحمر والأبيض والقواقع النادرة ونجوم البحر بمختلف أحجامها، ويضيف المشرف قائلاً «لدينا أنواع مميزة من أسماك التايجر والصندوق والقرش وأيضا أسماك الكافيار وحصان البحر، وكلها حقيقية تماماً، إذ تم اصطيادها وجلبها من بيئات بحرية مختلفة ثم تم حفظها بطريقة معينة كي نضمن استمرارها من دون أي تأثر أو تلف». |
سميت السوق بهذا الاسم لأن «العرصة» هي البقعة المرتفعة الفارغة بين البيوت، حيث كانت البضائع تجلب إليها ويتم تبادلها بنظام المقايضة ، ويضم 87 محلاً متفاوتة الأحجام والمساحات ولها تسعة أبواب تغلق في المساء كنوع من التأمين. وأوضح المسلم لـ«الإمارات اليوم» أن «إدارة التراث تسلمت السوق عام 1990 لتتولى ترميمها وإعدادها بشكل مرحلي، لتصبح مزاراً سياحياً معبراً عن تاريخ وتراث المنطقة، وبالفعل تم افتتاحها عام 1995 باعتبارها السوق القديمة التي تنقسم إلى سوق العرصة والسوق المسقوف وسوق الشيخ صقر. ويضيف أن المرحلة المقبلة في تطوير السوق تأتي ضمن مشروع هيئة الشارقة للتطوير والاستثمار «شروق» التي تتبنى أضخم مشروع تراثي في الخليج العربي والمنطقة وهو «قلب الشارقة» الواقع في المنطقة التراثية.
الأشياء تحكي
ساعد على انتعاش هذه البقعة وتطورها لتشغل مكاناً استراتيجياً في حركة البيع والشراء، موقع مدينة الشارقة ذاته من حيث الملاحة والبضائع الآتية من الهند واليمن وعُمان وإيران، وتنوعت بين أقمشة وسجاد وحلي وأسلحة ومواد غذائية. هذه البضائع نفسها موجودة في السوق حالياً في صورتها القديمة أو «التراثية» كما اصطلح عليها، ولاتزال السوق مقصداً لمن يريد شراء سجاد يدوي أصيل بكل أنواعه ومقاساته، وهناك دكاكين أو محال متخصصة في بيعه دون غيره من البضائع، مثل محل سعيد محمد، اليمني الأصل، ويقول «أعمل في تجارة السجاد اليدوي في سوق العرصة منذ 30 عاماً، جئت إلى الشارقة شاباً صغيراً لأبيع وأشتري ثم استقر بي الحال داخل الدولة وأصبحت لي أسرة يعمل معظم أفرادها في التجارة نفسها».
وبخلاف السجاد اليدوي، يعج دكان سعيد بمئات القطع التراثية من خناجر وبنادق قديمة وحلي واردة من اليمن وأفغانستان، إضافة إلى أحجار كريمة ولؤلؤ وأصداف تتعدد أشكالها وألوانها، وبنبرة يملأها الزهو يتابع سعيد قائلاً «زبائني من أهم الشخصيات الإماراتية والعربية لأنني أهتم باقتناء أجود أنواع السجاد الإيراني الذي يتم استيراده من أصفهان وشيراز وكاشان، كما أهتم أيضا بالبحث عن القطع الأثرية الأخرى كالخناجر التي أجلبها من اليمن وهي تعود إلى شيوخ وقضاة القبائل اليمنية القديمة، ومنها ما يعود إلى عام 1818». يبدو الشيخ سعيد وهو يتحدث ممتلئاً بعشقه للتحف والبضائع ذات التاريخ، كل قطعة لديها حكاية طويلة ومثيرة لا تملك إلا أن تتورط فيها مع هذا الراوي المخضرم.
دعم ودعاية
على الجانب الآخر، وقف صلاح (18 عاماً) الابن الثاني لسعيد، الذي يعمل مع والده في السوق منذ خمس سنوات، بدا صلاح غير متحمس لوجهة نظر والده، وربما غير مستمتع بالتجربة على الإطلاق ويقول «في بداية عملي هنا أحببت السوق وجوها العام، لكني الآن أشعر بالملل وعدم جدوى الاستمرار في هذه التجارة غير المربحة، فالأمور لم تعد كالماضي بسبب قلة الزبائن وضعف حركة البيع والشراء» . ويدعم التاجر الابن وجهة نظره حول السوق معلقاً «الجهات المعنية لا تقوم بواجبها تجاه السوق كما ينبغي من حيث الاهتمام بالنظافة والديكور والإضاءة، فضلاً عن الدعاية الإعلامية التي تلعب دوراً كبيراً في التعريف بالمكان مثلما تفعل مع المتاحف وغيرها من الأماكن التراثية في الشارقة».
ويؤكد صلاح، الطالب بالمرحلة الثانوية، أن علاقته بتجارة التحف تعد نوعاً من الميراث الذي انتقل إليه من والده وأخيه الأكبر الذي سبقأن عمل في السوق إلى أن أصبحت له تجارة مستقلة في الفجيرة، بعد أن امتلك خبرة في التعامل مع السياح، فهو يجيد التواصل بالإنجليزية والفرنسية والروسية والألمانية وقليل من الصينية، وتعلم من والده أسماء وأنواع الأحجار والمشغولات والتمييز بين الأصلي منها والمقلد. ويؤكد صلاح عدم ارتياحه لهذه التجارة، خصوصاً في الأسواق العربية «أحلم بفتح أفرع لتجارة التحف في أوروبا لأن الغربيين يقدرون الرموز التراثية بصورة مبهرة، فأبي هنا قد يظل محتفظاً ببضاعة ما لسنوات ممتدة حتى يجد لها مشترياً قيماً أو يضطر لبيعها كي يتخلص منها بغير مكسب أما أنا، فليس لدي استعداد لأضيع عمري في الانتظار».
ملتقى للحضارات
يعد التنوع سمة أصيلة من سمات سوق العرصة، وهو بمثابة مسرح تتجسد عليه شخصيات حضارية عدة، لكل شخصية منها أداؤها وزيها ورائحتها الخاصة، يمكنك مثلاً أن تتعرف إلى شخصية المرأة وحياتها في القبيلة بشتى صورها ومستوياتها، وعبر قبائل عربية وأعجمية، من خلال مشغولات وحلي تمتلئ بها محال التحف والإكسسوارات المختلفة منها الهندي والأفغاني واليمني والعُماني كل في تخصصه.
وفي إطار التنوع الثقافي الذي تمثله سوق العرصة، هناك محال العملات المعدنية والورقية التي يعود تاريخها إلى عشرات السنين، ومنها ما تم إصداره في مناسبات معينة. ويقول سالم، أحد عشاق اقتناء العملات «أحب عملة لدي تلك التي أصدرتها الإمارات عام 1970 بعد وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر مباشرة، وقد طبعت عليها صورته في لمحة تذكارية، وكانت الدولة آنذاك لم تنه بعد التعامل النقدي بالروبية الهندية».
صالون
ومن المحال الوحيدة في السوق من حيث البضاعة، محل بيع الحلويات البحرينية، ومحل حلاقة يعود تاريخه إلى سنوات طويلة، وقد تتابعت عليه أجيال من الحلاقين الباكستانيين ويسمي «صالون العرصة للحلاقة»، أيضاً هناك محل لبيع القبعات والنياشين العسكرية، ويضم تشكيلة تاريخية من قبعات مميزة تحمل علامات الجيش النازي والجيش الإنجليزي وشارات عسكرية أخرى .
وثمة مكان يختلف عن غيره، وينبع هذا الاختلاف من بيعه بضاعة محلية قديمة جداً ألا وهي «التبغ» التقليدي، الذي يتم اقتناؤه على شكله البدائي «في صورة شجرة جافة». ويعد تاريخ محل التبغ هذا من تاريخ سوق العرصة نفسه، بل من تاريخ الأجيال الكثيرة التي تعاقبت عليه. الغريب أنه محل شديد البساطة، صغير الحجم، تستسلم أشجار التبغ بهدوء في منتصفه مختبئة داخل غطاء من الخوص، وفي أحد أركانه ميزان قديم جداً بجانبه وعاء تراثي لحفظ المياه باردة، وأكد التجار المحيطون بمحل التبغ أنه «كان يعمل بصورة منتظمة حتى وقت قريب، إلا أنه أصبح مغلقاً لفترات طويلة بسبب مرض صاحبه، وعلى الرغم ذلك يأتي إليه زبائنه من أرجاء الإمارات كافة».