مقهى العرصة.. زبائن يسهرون مع التراث
بحماس طفل يقول سالم السويدي البالغ من العمر 80 عاماً «أتردد على هذه السوق منذ سنوات طفولتي الأولى، حيث كانت تباع خيرات البحر وفي مقدمتها اللؤلؤ، كما كنا نشتري أيضاً الفخّار والتمور»، وهو يقصد «سوق العرصة»، هذه المساحة الجغرافية الصغيرة نسبياً، التي على الرغم من ذلك يتكدس فيها التاريخ والتراث، وتتزاحم فيها المشغولات اليدوية مع الماضي المشغول ببساطة وحرفية، وتتجاور العلاقات الإنسانية الفريدة مع العملات النقدية النادرة، حيث ينهض الناس كل صباح كأنما هم في مهمة مشتركة مع المكان: حراسة التاريخ والسهر على نصاعة التراث.
ويؤكد السويدي أن «تاريخ مقهى العرصة الشعبية من تاريخ السوق»، إذ كانت في البداية مكاناً بسيطاً يجتمع فيه التجار في أوقات تتخلل عملية البيع والشراء، فضلا عن استقبالها للتجار القادمين إلى السوق من بلاد أخرى، وهو الأمر الذي كان معروفاً عن السوق بشدة. ويتابع الرجل الثمانيني مسترجعاً ذكرياته مع المكان قائلا إن «منطقة العرصة لم تكن مجرد سوق ومقهى يتردد عليه الأفراد، بل هي بمثابة محطة مهمة في الإمارات؛ لا تحتسب زيارة المرء دون المرور عليها؛ حتى الإنجليز كانوا يترددون عليها أثناء وجودهم». وينتمي السويدي إلى صحبة أو مجموعة من الأصدقاء الذين يلتقون يومياً في مقهى سوق العرصة؛ يتناولون المشروبات الشعبية ويتبادلون الأحاديث والأخبار التي لا تخلو من فكاهة وتندر، عن أنفسهم وذكرياتهم المتناثرة في أروقة المكان.
مركز عالمي
تضم هذه الصحبة أيضاً خليفة التميمي البالغ من العمر 60 عاماً، الذي يعمل في مجال الجيولوجيا، لكنه يحرص على الحضور إلى المقهى، لأنه بحسب قوله «المكان الذي يرتاح إليه ويجد فيه أصدقاءه المقربين جداً». ويؤكد التميمي أن إمارة الشارقة «كانت في فترة ازدهار السوق ملتقى لحركة التجارة والتبضع، ربما بصورة تفوق الأسواق المشابهة في أي من البلدان المجاورة»، وهو ما اتفق معه الصديق الثالث بخيت المهيري البالغ من العمر 50 عاماً، الذي جاء بصحبة ابنه البالغ من العمر ثمانية أعوام، يقول «منطقة العرصة كانت بمثابة مركز للتجارة العالمية، حيث تحل بها كل البضائع القادمة إلى المنطقة عن طريق البحر من بلاد الهند وإيران وأفغانستان، فضلاً عن البلدان المجاورة، لذلك اتسعت شهرتها بين التجار وكذلك الزبائن على اختلاف وجهاتهم». وحول المراحل التي مر بها مقهى العرصة الشعبي، أكد المهيري أن «السوق لم تتعرض إلى تغيرات كثيرة، إذ ظلت مساحتها كما هي، لكنها كانت في البداية من السعف والخوص، تمشياً مع البيئة الإماراتية القديمة، ثم تحولت إلى شكلها الحالي الذي لم يطرأ عليه جديد منذ فترة طويلة».
طقوس
من جانبه علق سيف السويدي، المولود عام ،1959 الذي كان منشـغلاً بمتابعة التلفاز منذ وصوله إلى المقهى، قائلاً «نحن نأتي إلى هنا لنجتمع بعيداً عن صخب الخارج، لأن هذا المكان يضمن لنا الهدوء والأجواء الشعبية البسيطة التي نشأنا عليها، سواء من حيث طريقة التعامل والخدمات المقدمة أو من حيث جو المكان الذي لم يتغير رغم مرور الســـنوات وتقدمنا في العمر»، ويضـــيف السويدي «بإمكـــاني أن أذهب إلى أماكن أخرى كثيرة، لكـــنني لن أجد فيها هؤلاء الأصــدقاء الذين تربطني بهم ذكريات كثيرة، كما أنـنا جميعا أبناء هذه المنطقة والمناطق المجاورة».
هذا إذن هو سر مقهى العرصة الشعبي؛ هذا المكان الذي يجذب الناس إليه بما يحمل من بساطة وعمق في الوقت ذاته، بإصراره على الاحتفاظ بالتقاليد والطقوس القديمة عبر حوائطه التي تتخذ لون الصحراء، وتزينها مشغولات يدوية من سعف النخيل، إضافة إلى رائحة المأكولات والمشروبات الشعبية التي تختلط برائحة سنوات الماضي.
نموذج حياة
ويتنوع زوار المقهى، الذي يفتح أبوابه منذ الصباح الباكر ويغلقها مع إغلاق السوق في التاسعة مساء، فيتردد عليه العاملون في السوق من تجار أغلبهم من المواطنين، وأيضاً البائعون من هنود وبنغال، والعاملون بالمنطقة التراثية، خصوصاً من ينتمون منهم إلى جنسيات غربية، إضافة إلى السائحين المتجولين في السوق، الذين يتوقفون أمام المقهى ويدخلون إليه كنموذج لحياة وثقافة المواطن المحلي. ولا يقتصر رواد المقهى على المسنين فقط، بل ربما يكونون الفئة الأقل وجوداً في مقابل الشباب الذين يفضلون الجلوس في مقهى العرصة الشعبي عن أماكن أخرى كثيرة، ولو لمجرد التجمع ومشاهدة التلفاز.
يقول سامر العلي الذي يتجاوز العشرين بقليل «أحب زيارة سوق العرصة بشكل عام لأنني من هواة جمع العملات القديمة، لذلك آتي من وقت إلى آخر كي أتابع ما يجلبه التجار من عملات ربما أحرص على اقتنائها، والمقهى جزء من السوق لابد أن أجلس فيه ولو قليلاً كلما مررت من هنا». ويشير العلي أن مقهى العرصة ليس كأي مكان آخر، فهو مرتبط لديه بالتحف والأشياء القديمة التي يستمتع بمشاهدتها في السوق.
دور تاريخي
وتماشيًا مع البيئة التجارية والسياحية التي كانت تميز سوق العرصة، لعب المقهى دورًا مهماً في الجمع بين تجار من أقطار مختلفة وتعريف بعضـــهم ببعض، من حيث تبادل الثقافات والعــلاقات وأيضا المصالح، فكم من صفقات شهد هذا المقهى البســـيط على إتمامها، وهو ما يمكن تلخيصه في الدور الحضاري والاقتصادي الذي لعبه هذا المـــكان، الذي لا يتعدى بضعة أمتار، في مسيرة تطور الدولة. أما ما بقي من هذا الدور بخلاف ذكرياته، فهو اســـتقبال المقهى لبعض تجار التحف والأشـــياء النادرة، إذ لايزال أنسب الأماكن للجمع بين المهتمين بمثل هذه البضائع، إذ يتردد عليه من وقت إلى آخر تجـــار من مصر والمغرب وإيران واليمن للتفاوض وعقد صفقات بيع وشراء مثل هذه البضائع النادرة.