«أحلام بسيطة» صقل موهبته

المقيد يكسر صمت الإعاقة بمعرض تشكيلي

لوحات محمود المقيد تستقطب جمهوراً كبيراً في غزة. من المصدر

على الرغم من أنه ولد أصم، فإن الفتى محمود المقيد كسر حاجز الصمت ونقل مشاعره وأفكاره للعالم عبر موهبتة الفطرية بالرسم. ويعاني المقيد وهو من سكان قطاع غزة، إعاقة مزدوجة فهو أصم منذ ولادته وفاقد للبصر في إحدى عينيه بشكل كامل وشبه كلي في الأخرى، لكنه مع ذلك يكافح للارتقاء بنفسه والتواصل مع العالم من حوله.

حقق المقيد البالغ من العمر 15 عاماً هذا التواصل عبر موهبة الرسم ونجح أخيرا في إقامة معرض للفن التشكيلي كأول معاق يفتتح معرضاً خاصاً به في الأراضي الفلسطينية ويحظى باهتمام بالغ. ويبدي محمود ابتسامة خجولة وهو يراقب بصمت زوار معرضه المفتوح للعامة بشكل يومي في قرية الفنون والحرف وسط مدينة غزة. وكان محمود استغل فرصة رعاية برنامج محلي اسمه «أحلام بسيطة» يبث على قناة فضائية فلسطينية من أجل صقل موهبته أدوات الرسم التي يمتلكها وينجح في افتتاح المعرض. ويقول والد محمود إنه لم يكن يتصور للحظة أن يصل نجله إلى هذه المرحلة نظراً لإعاقته ومعاناته ضعفاً عقلياً جعله قليل التحصيل الدراسي. ويضيف أن محمود لم يستسلم لهذا الواقع عندما عمد إلى استغلال موهبة الرسم لديه وتنميتها بجهد عبر قضاء معظم أوقاته ممسكاً بريشته وألوانه.

ولد محمود لعائلة فقيرة في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة ليكون أحد ستة أطفال أصيب نصفهم بإعاقة الصمم، التحق بعدها بمدرسة خاصة بالصم، إلا أن معاناته تضاعفت لاحقا بعد أن بدأت الرؤية تضعف في عينه اليسرى منذ أن كان في العاشرة من عمره إلى أن اختفت تماماً، ومن ثم فقد الإبصار قبل أن تنتقل المعاناة إلى عينه اليمنى التي صارت نسبة إبصاره بها الآن 50٪. بعد ذلك التحق محمود بمدرسة «أطفالنا للصم» ورغم تراجعه في التحصيل الدراسي فإنه تميز بالرسم بشكل سريع ليحظى باهتمام خاص من مدرسي الفنون الذين يبدون إعجاباً بموهبته وأفكاره. وجمعية «أطفالنا للصم» هي جمعية فلسطينية غير حكومية تقدم خدمات تعليمية واجتماعية وتأهيلية ومهنية للصم منذ عام 1992 عبر المدرسة المتخصصة في تعليم الصم الفنون والبرامج المهنية والتدريبية والإنتاجية العديدة الموجودة بها. وتضم المدرسة 275 طالباً وطالبة بين أربعة و17 عاماً.

تقول سعاد عوض مدرسة المقيد والمشرفة على معرض محمود إنها لاحظت موهبة الرسم لديه منذ كان في العاشرة من عمره وتنبأت بمستقبل واعد له. وتشير عوض إلى أنها حرصت على تشجيع محمود بشكل خاص ودفعه للتركيز على تنمية موهبة الرسم من أجل تطوير قدراته وهو ما حصل لاحقاً بالفعل. وتقول سعاد «كنت أرقب محمود بعين فاحصة، فيما كان هو حبيس عالمه المغلق الذي كنت أخرجه منه بين الفينة والأخرى بمجموعة من الإشارات التي تشكل تذكرة الدخول إليه».

ويركز محمود في رسوماته على واقع حياته فتجده يميل إلى العنف عبر رسوم الحروب والجيوش المسلحة والطائرات والنار، إضافة إلى صور مدينة القدس وقطاع غزة. وفي إحدى رسوماته في المعرض نجد يداً تمسك أسلاكاً شائكة، وتحطم قيدا حديدياً أحاط بمعصمها في دلالة إلى سعي الشعب الفلسطيني إلى نيل حريته وإقامة دولته المستقلة.

ويقول أستاذ علم النفس في جامعة «الأقصى» في غزة الطبيب فضل أبوهين، إن تركيز محمود وأمثاله من الأطفال والفتية في القطاع على العنف في تعبيراتهم «نتيجة طبيعية لواقع الاحتلال والحرب الذي يتعرضون لها منذ سنوات». وأوضح أبوهين أن الطفل الفلسطيني بفعل الضغوط النفسية التي يتعرض لها وبسبب الخوف والهلع، فإن العنف يسيطر على كثير من جوانب حياته بينها خياله الإبداعي وممارساته اليومية. ويشير إلى أنه أجرى بحثا علميا خلص فيه إلى أن الطفل الفلسطيني بسبب الضغوط يلجأ إلى ممارسة أساليب سلوكية لا تخص مرحلته العمرية، عبر إظهار بعض الخصائص السلوكية الباكرة وغير المناسبة لسن الطفل.

لكن المدرسة عوض تقول إنها سعت منذ عام بقوة إلى تغيير تركيز الفتى محمود على هذا النوع من الرسومات بالانتقال إلى عواطفه ورسومات الطبيعة الجميلة لإظهار الوجه الآخر من شخصيته بعيداً عن واقعه المعاش. وتنقل المدرسة عوض عن محمود أنه يستمد لوحاته من الواقع، لكنه طعّمها بجانب كبير من خياله، ومما كان يتابعه على شاشة التلفاز. ويتحدث محمود لمدرسته بطفولة كبيرة عن حبه الكبير للرسم، وأنه سيحاول الاستمرار في ممارسته، وإن منعته إعاقته بل إعاقتاه. ويشير وهو يتحدث لمدرسته بالإشارات إلى حلمه بافتتاح معارض كبيرة تزورها وفود عربية ودولية وأن يسطع نجمه في هذه الموهبة التي يعشقها. كما أن محمود لا يفوته أن يطالب بتقديم رعاية مناسبة له ولأمثاله من ذوي الإعاقة. وهناك ما يقرب من 25 ألف أصم وضعيف السمع في قطاع غزة، العديد منهم لا يتلقى خدمات دعم متخصصة. لكن يبقي مسعى هذا الطفل الأكبر وهو التمكن من تلقي العلاج اللازم لحالته أو ما يلزم لإجراء عملية تجميلية لعينه الميتة كي لا تبقى مشوهة لمظهر وجهه.

تويتر