«ضيعة ضايعة».. بالأذن بالأنف بالحنجرة
يبدو أنه كلما أغرقت بالمحلية أكثر كلما كانت الفكاهة أكثر اتساعاً، وبما يستقطب شريحة واسعة من المشاهدين قد تكون في أحيان كثيرة لا تعرف شيئاً عن هذه البيئة، لكنها ستكون مأخوذة بالفكاهة التي تمضي جنباً إلى جنب مع الفضول باكتشافها، لكن دون أن يفوتنا التأكيد على أن هذه المحلية لن تكون ذات قيمة أو حاملاً للكوميديا ما لم تلتقط جوهر البيئة التي تقدم لها، ومن ثم البناء عليها من خلال شخصيات ملتصقة بها تماماً ووفق ما يراهن عليه العمل الدرامي.
بين السماء والأرض
المسلسل السوري «ضيعة ضايعة» في جزئه الثاني والذي يعرض على قناة «أورينت» هو المثال الأسطع على ما تقدم، والذي يواصل من خلال الشخصيات التي أسس لها في الجزء الأول قصة تلك الضيعة المعلقة بين السماء والأرض، ولعله في جزئه الثاني يوسع من مساحة حضوره، ويقدم ما له أن يكون إضافة على توقعات عشاق هذا العمل، مع الحفاظ في الوقت نفسه على خصائص الشخصيات والتي كانت ومازالت «كاركترات» كوميدية غنية جداً يقدمها ممثلون وممثلات على قدر كبير من الموهبة الكوميدية، تنتقل من حلقة إلى أخرى وهي تواجه أحداثاً منفصلة عن الحلقة السابقة لها، ومتصلة من خلال كون تلك الشخصيات على ما هي عليه من صفات، وبالتالي فإنها تبني المفارقة من خلال ما تواجهه، أو في سعيها لأن تقوم بدور مخالف لقدراتها، وليكون الحضور الأكبر في الجزء الثاني لمضامين متعلقة بالحريات وغيرها من مأزق على اتصال بما يتخبط به المواطن العربي البسيط وعلاقته مع الحكومة ومؤسسات الدولة التي تشعره بالخوف بدل الأمان، ومن ضمن نسيج العمل الكوميدي نفسه دون اقحام أو مزايدة أو رطانة، ومن خلال الأزمات التي يواجهها جودة (باسل ياخور) وأسعد (نضال سيجري) شخصيتا العمل الرئيستان، ومعهما سكان الضيعة حين يصدر «على سبيل المثال» قرار حكومي يمنع «التملق» ويحض على التعبير عن الرأي، ولتمضي حلقة كاملة وسكان الضيعة عاجزون عن معرفة ما هي حرية التعبير بحيث تصبح لغزاً كبيراً، بعد أن يستطيعوا معرفة أن التملق يعني «تمسيح الجوخ»، بما يدفعهم في النهاية إلى تسليم أنفسهم إلى مخفر الشرطة ليتخلصوا من عبء «التعبير عن الرأي» مفضلين «الفلقة» على ذلك، كما أن منع «التملق» سيمنعهم من الكلام أصلاً.
على هذا المنوال تمضي الحلقات، كأن يصبح غياب «المخبر» عن القرية أزمة كبرى أيضاً وجميع من في القرية يرفض أن يحل محله، ونحن نرى رئيس المخفر يسأل كل واحد من أهالي الضيعة بأن يأخذ على عاتقه هذه المهمة، لكن في النهاية لا يعود أحد في القرية يتواصل مع الآخر كما في السابق، والأحاديث تصبح عن الطقس وأشياء غير محددة، فكل يشك بالآخر، وعليه يمضون إلى مخفر الشرطة ليتعهدوا بأنهم سيعيدون المخبر إلى القرية، وريثما يعود فإنهم سيتناوبون على هذه الوظيفة، وكل ذلك حتى تعود أحاديثهم إلى سابق عهدها، ويصبح الحذر في الأحاديث متعلقاً بالشخص الذي يكون دوره في أن يكون مخبراً.
فكاهة سورية
الفكاهة التي يقدمها «ضيعة ضايعة» إخراج الليث حجو وسيناريو ممدوح حمادة، تدعونا الى العودة إلى الفكاهة السورية التي عرفت عربياً من خلال نهاد قلعي ودريد لحام، وهي فكاهة دمشقية بامتياز، ولعل ذلك كان مسعى الراحل نهاد قلعي الذي كان واعياً تماماً لبنائه هذه الفكاهة، وليأتي «ضيعة ضايعة» بوصفه فكاهة ساحلية بامتياز، لا بل«لاذقانية» نسبة إلى مدينة اللاذقية على الساحل السوري، ولعل الحديث هنا عن كوميديا الأطراف ستكون شيئاً رئيساً في خصوصية العمل، وعموداً أساسياً لنجاحه، وهو يستثمر في اللهجة التي تتصاحب أحياناً بترجمة Subtitle كونها ستكون مستعصية على أغلبية متابعيه، وفي تناغم مع اللهجة يأتي التأسيس للشخصيات التي تحمل عناصر جذب كثيرة تأتي أولاً من تحالف العفوية مع البساطة، فالثنائي جودة وأسعد لا يفارق أحدهما الآخر، جودة سارق دجاجات أسعد، الأول يصنع المكائد للثاني، واسعد محمل بالطيبة التي تجعله يغفر كل شيء لجودة.
الزمن متوقف
الزمن متوقف في «أم الطنافس»، لقد حصلت ثورة المعلومات والاتصالات وكل ما شهده الكون، لكن «أم الطنافس» هي الاستثناء الوحيد في هذا الكون المترامي التي لم يصلها أي شيء من كل ذلك، وجميع من في هذه الضيعة لم يتغير شيء في حياتهم اليومية، لا بل إن الشخصيات وطيلة المسلسل ستبقى كما هي، لأنها إن تغيرت سيختل كل العمل، لا بل إنها تكرر كل شيء طيلة المسلسل، لكن بمواجهة مآزق متجددة، سنتوقع أن جودة سيقول «بالأذن بالأنف بالحنجرة»، لكن هذه العبارة التي يستأذن بها، ستتنوع بحيث ستكون مع المهرب أبوشملة (محمد حداقي) مختلفة مع غيره، بينما يضع أبوشملة فوهة بندقيته في حنجرة جودة، وعلى المنوال نفسه سيكون سلنغو (محمد صبيح) مثقف القرية والعاشق المتيم بعفوفة (رواد عليو) يشربان «المتة» ويأكلان «المكدوس» وليكون المختار أبوسليم بيسة (زهير رمضان) والد عفوفة مطارداً أبدياً لسلنغو الذي يتهمه بـ«سليل الاقطاع»، بينما يجيبه أبوسليم بأنه «بوليتاري أكثر من أي بوليتاري»، وهكذا ليطال الأمر كل شخصيات المسلسل بما في ذلك رئيس المخفر أبونادر (جرجس جبارة) والآخرون.
تأصيل الكوميديا
مع هذا الاستعراض السريع لهذه الشخصيات فإنها جميعاً سرعان ما تستقر في ذاكرة المشاهد، كما كانت ومازالت عليه شخصيات غوار الطوش وحسني البورظان وأبوعنتر وياسين بقوش وغيرها من الشخصيات الأثيرة في الكوميديا السورية، والتي بدورها كانت ثابتة أيضاً على خصال لا تتغير، لا بل إنها شكلت نوعاً من الأسر للممثلين الذين جسدوا تلك الشخصيات بحيث وجدوا صعوبة كبيرة في الخروج منها هذا إن نجحوا في ذلك، فدريد لحام هو غوار أولاً رغم كل محاولاته لتقديم شخصيات أخرى، وكذلك الأمر مع الراحل ناجي جبر، والذي ربما يعرفه المشاهد العربي بأبوعنتر دون أن يعرف اسمه الأصلي. يواصل «ضيعة ضايعة» حلقاته، ولعله وعلى عكس المتعارف عليه ومن خلال الحلقات التي شاهدناها إلى الآن يبدو أكثر تميزاً من جزئه الأول الذي لم يكن ينقصه النجاح، وله أن يحمل كل المشروعية في التأصيل لكوميديا وفية تماماً للعالم الذي تقدمه، للزمن المتوقف، للفقر والطيبة، وللسخرية التي يعرف بها سكان مدينة اللاذقية، بحيث يأتي استثمارها إلى أقصى درجة، وفي الوقت نفسه تأتي أغنية شارة البداية لعلي الديك حزينة ومغايرة تماماً للكوميديا المضحكة التي يقدمها العمل، ولا أعرف إن كان ذلك مقصوداً، كون سكان «أم الطنافس» مدعاة للحزن أيضاً كون الطيبة المفرطة مازالت عالقة بهم رغم كل ما شهده العالم من تغيرات.