«الحجر الأسود» أذابت الحدود بين «النخبوي» و«الجماهيري» وجذبت حضوراً استثنائياً في افتتاح «أيام الشــــــــــــــــــــــــــــــــــارقة». تصوير: أشوك فيرما

القاسمي افتتح الدورة الــ 21 لـ«أيام الشارقة المسرحي»

افتتح صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة، مساء أول من أمس، فعاليات الدورة الـ21 لمهرجان أيام الشارقة المسرحي، بحضور عدد كبير من المسرحيين الإماراتيين والعرب في قصر الثقافة بالشارقة، الذي امتلأت قاعة مسرحه عن آخرها، وهنأ سموه المسرحيين بهذه التظاهرة السنوية، معرباً عن أمانيه أن يثمر ألقها قريباً، واضطرت أعداد كبيرة أخرى إلى مزاحمة فرق المؤثرات الصوتية والضوئية والتصوير التلفزيوني أماكنهم، في مشهد أعاد للأذهان حِقباً سابقة شهدت ذوبان الحدود بين المسرحين الثقافي والتجاري جماهيرياً.

ترقب العمل السابع لصاحب السمو الشيخ سلطان في ما يتعلق بإبداع النصوص المسرحية كان أحد دوافع هذا الحضور، فبعد مضي نحو عامين على عرض «شمشون»، جاءت الليلة الأولى لتكشف عن مسرحية جديدة هي «الحجر الأسود»، من إخراج التونسي المنصف السويسي، وشارك بها نحو 60 فناناً وفنياً في مقدمتهم رئيس مسرح الشارقة الوطني الذي يشارك باسمه العمل، الفنان أحمد الجسمي.

لا تصنيف

لا يمكن وصف الحالة المسرحية التي بدا عليها قصر الثقافة، مساء أول من أمس، في افتتاح الدورة الجديدة لأيام الشارقة المسرحية سوى بكونها عرسا مسرحيا حقيقيا يمثل ألقه أملاً حقيقياً في قدرة الفعل الثقافي على إيجاد سياق واقعي له في نسيج المجتمع. مئات من الحضور يتنافسون على إيجاد المقاعد في مسرحية غير تجارية، وصحافيون وإعلاميون وممثلون وجمهور يختلطون من دون حاجة إلى تصنيف فئات المقاعد، وبهجة تلقي عمل مبدع توحد الجميع، حتى أولئك المحسوبون على «الحجر الأسود» وهم يقومون بمتابعة أعمال المؤثرات الصوتية والضوئية وغيرها من خارج الخشبة، كان يجاورهم ويتوحد معهم مشاهدون قريبون منهم.

«الحجر الأسود» الذي تلاقى على متابعته المختلفون في اهتماماتهم بالعادة، لم يجذب فقط المهتمين بالشأن المسرحي أو جمهور «النخبة المثقفة» كما اصطلح البعض على تسميتهم، فمعظم الجرائد اليومية حضر منها أعداد كبيرة من الزملاء ليس بغرض المتابعة المهنية هذه المرة، بل بهدف الاستمتاع بعمل مسرحي راق. المسرحيون الإماراتيون والعرب عبروا لـ«الإمارات اليوم» عن تقديرهم للعمل وفق تحليلات وقراءات متعددة، وهو ما أشار إليه المصريون محمد صبحي وحسين فهمي ورياض الخولي وسميحة أيوب، والسوري جمال سليمان، والإماراتيان إسماعيل عبدالله وعمر غباش، فيما كان أحمد الجسمي ومحمد غباش والمنصف السويسي شديدي التفاعل مع ردة فعل الجمهور عقب إسدال الستار.

الكلمات المختزلة التي سبقت العرض لم تكن تقليدية، وجاءت معبرة عن حميمية وشغف شديدين بالمسرح عموماً وتظاهرة «الأيام» خصوصاً، سواء في ما يتعلق بكلمة تمثل الجهة المنظمة للحدث التي ألقاها رئيس دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة عبدالله بن محمد العويس، مؤكداً مكانة المسرح في الفعل الثقافي، وقدرته على استشراف المستقبل، مستشهداً بمسرحية الافتتاح «الحجر الأسود»، فيما ألهبت أكف الحضور ولمست وجدانهم كلمة الفنانة المصرية التي اختيرت شخصية العام المكرمة سميحة أيوب، التي صاغت كلماتها بتواضع شديد رأت فيه نفسها «مجرد امرأة طالها هوس أبوالفنون»، قبل أن تتلقى درعاً تكريمية من سموه.

حالة التكتم الشديدة على ملامح «الحجر الأسود» انعكست تشويقاً لحلول لحظة رفع الستار، قبل أن يؤشر تغير الإضاءة وإظلام القاعة إلى أنها قد حانت بالفعل، ليتكشف مع اللحظة الأولى أن ثمة إعلاناً داخلياً تلقائياً عبر صوت أشبه بـ«الجرس التحذيري»، كأنه مؤشر إلى أنك بدأت من خلال تلاقيك مع الفعل المسرحي التواصل مع زمان ومكان مختلفين، تبدأ خيوط أحداثه تؤشر إلى منتصف القرن الرابع الهجري في بغداد مقر الخلافة العباسية في إحدى أحلك فتراتها وأخطرها فتنة، عبر صراعها السياسي والفكري والعسكري أيضاً مع القرامطة، في عصر الخليفة العباسي ابن المعتز، وهو الأمر الذي أحالت إليه بداية ترديد الجموع تحية متكررة أشبه باللازمة الغنائية «حيا الله ابن المعتز».

هذا السياق الذي يلح على تأكيده المؤلف والمخرج لم نرقب فيه تحضيرات نفسية، أو خيوطاً تنفرد لتتكثف وقائع حول فتن ومؤامرات لا تنتهي حتى تتولد شبيهاتها في زمرة سلسلة من الاغتيالات التي تزعزع كل شيء، وتحركها أفكار مشبوهة تتخفى في ثوب الإسلام، بل وضعنا مباشرة في سياق ذروة الأحداث، حول حادث سلب الحجر الأسود من مكة المكرمة، وخطف الخليفة المقتدر الذي تولى الخلافة وهو لا يتعدى عمره 13 عاماً، ثم استمرار المكائد والدسائس والفتن والإرهاب ليطغى على شرايين الحياة، وتستر محركيه بثوب الإسلام.

المسرح الذي تم تقسيمه إلى أكثر من مستوى للتحرك على خشبته، كان موحياً أيضاً من خلال اللجوء إلى عمقه أحياناً، وتعمد تحريك الأحداث في مقدمته احياناً أخرى، وكأن ثمة رسالة حقيقية تؤشر إلى ان للفتن أهداباً وخيوطاً هناك من يحركها ويتصنع إرهاباً للوصول إلى نتائج بعينها، لاسيما أن العمق الداخلي للمسرح تم حده في معظم فصول المسرحية الخمسة بفاصل ما يؤشر إلى أهمية ما يدور ويحاك في الخفاء، وخلف الكواليس.

سلب الحجر الأسود من موضعه والفتنة التي أعقبته وادعاء أحدهم الألوهية بألفاظ مباشرة اخترقت قلوب الحضور قبل آذانهم كان بمثابة رسائل مؤلمة تربط بين مخاطر الإرهاب والانضواء تحت راية الإسلام من قبل أدعياء ومتآمرين، وبين الماضي الذي تعود به الخشبة إلى القرن الرابع الهجري، والحاضر المتمثل في تهم الإرهاب، فضلاً عن الفتن والمؤامرات التي لا يخلو منها الواقع الإسلامي، ظلت مخيلات المشاهدة تنسج خيوطاً هي الأخرى، يتبعها تفسيرات وتأويلات رأى فيها مشاهدون أن المسرحية قراءة معاصرة والتقاطة موحية من سياق تاريخ، أحد مبادئه المكررة أنه يعيد نفسه أحياناً.

هذا السياق الفكري والتأملي الذي وجد المشاهد نفسه مضطراً إليه في ظل تطور الحدث الدرامي، لم يتوقف بعد أن علا صوت الحجيج يرددون أناشيد شد الرحيل إلى مكة، التي عاد إليها الحجر الأسود، واختلط المشهد المسرحي بآخر سينمائي عبر شاشة سينمائية ظهرت فيها جموع الحجيج الملتفة حول الكعبة، بل استمر المشاهدون عقبه بعد إسدال الستارة رابطين بين التاريخي والمعاصر، وبين الزمن المسرحي، وزمن الكتابة الذي كان قطعاً في فترة زمنية سالفة، وبين واقع حال الأمتين العربية والإسلامية التي تنشغل جل إبداعات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بهمومهما وقضاياهما.

الأكثر مشاركة