محمد منير: الغناء بجوار برج خليفة رسالة حضارية مهمة للغرب. تصوير : أسامة أبوغانم

محمد منيـر: «علّيـت صوتي بالغنا»

لا يستطيع محاور محمد منير، تماماً مثل سامعه، الفصل بين الفني والفكري والسياسي، فهذا الشاب الذي أجبره وأسرته مشروع السد العالي المصري على الهجرة من قريته النوبية التي غمرتها مياه السد، إبان عهد الرئيس المصري جمال عبدالناصر، أصبح بمثابة رسول لنشر الثقافة والتراث الموسيقيين للنوبة، وفيما تمتلئ أغانيه بالقيم الوطنية، وحواراته بالزخم الفكري والسياسي، استطاع أن يقدم نموذجاً في الانتقال إلى العالمية انطلاقاً من تمسكه بثقافة مناطقية محدودة، لدرجة أنه قام بإحياء 26 حفلة في ألمانيا في 26 منطقة مختلفة، خلال شهر واحد، وفيما بلغ حضور حفل له في سفح أهرامات مصر نحو مليون شخص، تمكن في آخر حفلاته التي أقيمت أول من أمس، بجوار برج خليفة، ضمن حفلات «دو على هواك»، بتنسيق مع مكتب دبي لترويج الفعاليات، من اجتذاب 10 آلاف متفرج، على الرغم من عدم الإعلان عنها منذ وقت مبكر.

مشاهد متباينة

أسر كاملة مكونة من الزوجين والأبناء الصغار، بينهم المحمولون على عربة أطفال، ومجموعات شبابية، وحضور لأجيال من عقود أكبر، قصدوا الحفل الذي أحياه في دبي لأول مرة الفنان المصري الأسمر محمد منير، الذي اعتبر البعض أن أغنيته «ازاي» التي رافقت الأحداث المصرية الأخيرة، استبشاراً بثورة 25 يناير المصرية، فيما يرى هو أن معظم أغانيه حملت المعنى نفسه، وأن «ازاي» جرى انجازها قبل الثورة بشهور.

ومع حماسة وطنية سيطرت على بعض من الحضور، قرأ البعض الآخر الأغاني بصيغ رومانسية وراح يقتنص في ظلالها همسات خافتة، مستثمراً عذوبة صوت منير في تغييب حرارة ورطوبة الجو اللتين سيطرتا على المنطقة المكشوفة لحديقة برج خليفة المستضيفة للحدث، فيما رأى آخرون أن موسيقى الأغنيات فرصة لا تعوض للرقص في أجواء مختلفة.

القراءات المختلفة للأغنيات كانت مفتاح سر الحفل، لدرجة أن بعض الحضور أكد أن «منير لم يجد اختيار أغانيه في هذا الحفل»، فيما لم يقف البعض عند الجوانب الفنية كثيراً، معتبراً الحدث برمته «تحية للثورة المصرية»، وهو تباين يصب في السياق الذي صرح به منير نفسه لـ«الإمارات اليوم» فقال «أعمالي تحمل قراءات مختلفة، أهمها همسات في أذن الوطن، تعالت لتصبح صرخات غير مكبوتة، بعد أن أثبت مشوار 30 عاماً من الغناء أن الهمسات الرقيقة لا تفيد أحياناً».

في اليوم الأول لقدومه إلى دبي التي يغني فيها لأول مرة، تذمر الإعلاميون من ممثلي وسائل الإعلام المحلية، لتأخره عن لقاء أُعد في الفندقذاته الذي يستقبله، لكن الفنان الأسمر الذي خضع لجراحة في العمود الفقري أخيراً رفض استثمار حقيقة أنه تعرض لنكسة صحية استدعت تدخلاً طبياً، مؤكداً حرصه على لقائه بالإعلام والجمهور العربيين في دبي «التي تزخر دائماً ببانوراما مشهدية ثرية»، حسب تعبيره.

وفي حين كانت أحدث أغنياته التي يتكرر عرضها في مختلف الفضائيات المصرية على خلفية أحداث الثورة المصرية، «ازاي»، هي آخر أغانيه في السهرة الغنائية، فقد كانت الأغنية نفسها أولى الأغنيات التي تم التساؤل عن ملابساتها في اللقاء الإعلامي، لاسيما أنها تمت كتابتها وتسجيلها، قبل أحداث الثورة نفسها، على الرغم من أن إذاعتها لأول مرة أثناءها تظهر كما لو أن كلماتها كُتبت مجاراة لتفاصيلها، وأجاب عن ذلك بقوله «الكثير من أعمالي كان على تلك الشاكلة، لكن الأمر تغير في الآونة الأخيرة، فبعد أن كنت أتحدث بنبرة هادئة مثل (يا عروس النيل) (ما نرضاش نخاصم القمر)، (علي صوتك بالغنا)، عليت صوتي بالفعل بالغنا، واضطررت إلى استخدام لهجة أعلى نبرة وأكثر سخرية في (ازاي) التي كانت صدى لأغانٍ ارددها منذ عام ،1978 لكنها لم تُسمع باستيعاب سوى في 25 يناير2011» .

100 دقيقة غناء

على الرغم من اتجاه حرارة الجو إلى الارتفاع، وزيادة الرطوبة في حديقة برج خليفة المكشوفة، إلا أن الجمهور بدأ التوافد إلى الحفل منذ السادسة مساء، ما يعني أن ساعات انتظار بعض الحضور امتدت إلى أربع ساعات، انتظاراً لإطلالة مطربهم، وباستثناء ثلاث منصات محدودة، موزعة يميناً ويساراً ومقابل المسرح، فقد كان على الجميع انتظار وسماع صاحب «شبابيك» و«وسط الدايرة» و«ازاي» وقوفاً، على الرغم من أن الحفل استمر لـ100 دقيقة، حتى 11.40 مساء.

ثراء المكتبة الغنائية لمطرب بدأ مشواره منذ أكثر من 30 عاماً يجعل من حفلاته الغنائية متجددة، وبعيدة عن التوقع في ما يتعلق باختيارات الأغاني، بل تبدو الصعوبة حاضرة لدى الفنان نفسه لتلبية رغبات جمهوره المتنوعة، وبمشاهد أقرب لصيغ إعلان الفرح بتسجيل هدف في مباريات كرة القدم، كانت مجاميع من الجمهور تعلن فرحها عندما تستشعر من المقدمة الموسيقية أن واحدة من أغانيها المفضلة هي المقبلة على المسرح، بل إن منير عجز عن اختتام الحفل في أكثر من ثلاث أو اربع مناسبات مختلفة، ليرجعه دائماً صراخ الجمهور الحاشد «الشعب يريد محمد منير». تنوع شرائح جمهور الحفل كان أحد المشاهد الموحية أيضاً بقدرة منير على الاستمرار مطرباً مهماً لدى الأجيال المختلفة، فجمهور الفئة التي تنتمي عمرياً إلى سن المراهقة كان حاضراً، من دون أن تكون له الغلبة العددية، وجمهور الفئة الشبابية الأعلى أيضاً كان حاضراً بكثافة، والأمر نفسه ينطبق على حضور من شرائح سنية أعلى، وفي مقابل حضور طاغٍ للجالية المصرية التي زينت المكان بأعلام بلدها، نظراً لعلاقة المطرب وأحدث أغانيه خصوصاً بثورة 25 يناير المصرية، كان هناك حضور لافت أيضاً لمختلف الجاليات العربية التي كان لها مطالبها الخاصة أيضاً في أغاني منير.

خبرة المغني الأسمر التي استعان بها للتغلب على آلام جسد ظل يجاهد انتصاب قامته وحركة صاحبه الدؤوبة على المسرح، وحيويته وتفاعله التي لا تعترف بحقيقة تجاوز سن صاحبه خمسة عقود واقترابه من طي السادس، جعلته يحول الحفل الساهر إلى وصال حقيقي بينه وبين جمهوره، وكسر منير سماع الجمهور بعض أغانيه مرات عدة بحوارات قصيرة ومرتجلة ربطت أحياناً بينها وبين الأحداث السياسية المعاصرة في مصر، ولو تلميحاً، إلى الدرجة التي جعلت الجمهور في ختام أحدها يردد «ارفع راسك انت مصري» وهي العبارة الشهيرة التي صاحبت أحداث ثورة 25 يناير المصرية.

«دعونا نتحدث سوياً، دعوني أقص عليكم حكاية، سأقول لكم حدوتة» عبارات استنتج عبرها الجمهور بأن الأغنية المقبلة هي «حدوتة مصرية»، لكن منير قدم الأغنية القديمة التي حملت أنيناً وشجناً عذباً في دفء معانيها، باستدراك بأن «الحدوتة المصرية انتهت، والمقبل أفضل»، قبل أن تلتقط الكاميرا التي تنقل عبر شاشتين كواليس الحفل، بكاء حاراً لفتيات يرددن معه في ختامها «لا يهمني اسمك ولا يهمني لونك، يهمني الإنسان.. وهي دي الحدوتة.. حدوتة مصرية».

وأكد منير أن الغناء أمام برج خليفة يعد رسالة عربية حضارية مهمة للغرب بشأن قدرة العرب على صياغة الإنجازات، وبعدما تحدث منير عن الحارة والنجع والأحياء الشعبية التي نقل تحيات قاطنيها للحضور أتبعها بأغنيتين من وحي الحارة المصرية احداها «أنا قلبي مساكن شعبية» «الجيرة والعشرة»، قدم تحية غنائية إلى جمهوره بأغنية «أمجاد يا عرب»، لكنه بناء على رغبة الجمهور، ختم أيضاً بالأغنية التي تحمل صيغة استفهامية للسؤال عن الكيف وهي «ازاي»، قبل أن يكون الانخفاض التدريجي للإنارة تأكيداً على أن المطرب لن يخضع لضغوط جماهيرية أخرى من أجل مواصلة الغناء.

الأكثر مشاركة