مؤلف المسرحية ومخرجها اضطرا إلى التمثيل
«الضباب».. «لا» مكلومة بمعاناة مهجّرين
صدور مفردة «لا» غير مقتصر فقط على فعل المقاومة، إذ قد تصدر أيضاً مكلومة، ومخضبة بدماء الضحايا، حتى وإن استسلموا لقدر النزوح، والطرد من وطن، هي إحدى الأطروحات الرئيسة التي تعالجها مسرحية «الضباب» التي عرضها مسرح الفجيرة القومي، مساء أول من أمس، على مسرح ندوة الثقافة والعلوم، ضمن فعاليات مهرجان دبي لمسرح الشباب، برؤية إخراجية ومحتوى درامي يتتبع معاناة مهجّرين باحثين عن سراب الحرية والأمن، والعودة إلى الوطن، من دون أن نعرف تماماً ماهية هذا الوطن، لتنفتح تأويلات عدة متعلقة بواقعية المشهد العربي، وتصدر قضايا مرتبطة بفكرة التهجير القسري.
على الرغم من ذلك يتجاوز العمل ـ الذي كتبه فارس حميد، وأخرجه عبدالله الرشدي، واضطر الاثنان إلى التمثيل نظراً لغياب مشاركين في العمل ـ الوقوف طويلاً عند ثنائية نحن والآخر، التي تضع الذات دائماً موضع الضحية، في مقابل دور الجلاد للآخر، إلى صورة أخرى تنقسم فيها الذات لتبدو بدورين، ضحية وجلاداً في الوقت ذاته، عبر الولوج إلى فكرة الصراع والانقسام الفكري أو الأيديولوجي أو حتى الإثني لمجتمع واحد، يجرم بعضه بعضاً، ويبقى المختلف مع الذات دائماً هو النموذج العملي لمفردة «خائن».
مشاهد جنائزية انسجم المشهد الختامي لمسرحية «الضباب»، في ثامن أيام مهرجان دبي لمسرح الشباب، مع سيادة صيغة استسهال النهايات التي تؤجج مشاعر الجمهور بمتابعة المشاهد الجنائزية، ومشاهد القتل أو الانتحار، أو حتى تشييع الجنائز، وهو المشهد الذي ساد، عبر مصادفة نادرة، في اللحظات الأخيرة قبل إسدال ستار معظم الأعمال الشابة، من خلال موت أم مكلومة بين أحضان صغيرتها التي قامت بتكفينها بثوب أبيض. وبعيداً عن الدعوة إلى التطرق لقضايا غير جادة على الإطلاق، أو حتى فرض وصاية على اختيارات المخرج والمؤلف، فإن تكرار اللجوء لنهاية الموت خياراً فنياً سهلاً، اصبح بحاجة إلى مناقشة فنية في الورش التخصصية التي تعد بها هيئة دبي للثقافة والفنون، فضلاً عن أن «لجنة المشاهدة» التي تابعت العروض مسبقاً، كان يفترض أن تتوقع أن جمهور المهرجان الذي هو في الغالب عدد ثابت من المهتمين والمعجبين بأعمال الشباب، لن يكون معجباً بمطالعة نهايات متقاربة في نهايات العروض. وأشار مؤلف العمل، حميد فارس، إلى أن «البعد العربي» وهمومه، ليسا بعيدين على الإطلاق عما يشغل الجيل العربي الشاب، باختلاف انتماءاته القطرية. فيما أشار المخرج عبدالله الرشدي، إلى أنه والمؤلف اضطرا إلى الاشتراك في التمثيل بعد اعتذار ممثلين في وقت حرج. «أشرقت» تصاحب الصغيرة أشرقت اختها أصالة وتتابعها في أداء التمارين المسرحية، وحتى حينما كانت الأخيرة خاضعة لورشة تدريبية في مسرح دبي الأهلي، كانت تصر على أن ترقبها من بعيد، ما شكل المقدمة لأن تصفق لها أكف متفرجين تابعوا العرض، ونقاد ومسرحيين حضروا الندوة التطبيقية. أشرقت، ذات الـ12 ربيعاً، حملت بصيغة النجوم الكبار باقة ورد، وراحت تتلقى التهاني من الكثيرين عقب العرض، كانت الوجه الأبرز لكاميرات المصورين، تنتظر عرض شقيقتها التي تكبرها بأربعة أعوام، ويراهن عليها الفنان مروان عبدالله في عمل سيختتم عروض مهرجان دبي للشباب بعنوان «للأطفال فقط». أشرقت حظيت بإشادة نقدية كبيرة من مستشار وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع، الفنان يحيى الحاج، مندهشاً من قدرتها الفنية على مسايرة تقلبات الشخصية، وصولاً إلى ذروة الأزمة الدرامية، بموت امها المكلومة بين ذراعيها، وقدرتها على التحلي برباطة الجأش وتكفينها، على نحو مؤثر. المفارقة أن الشقيقتين اللتين شاركا في كثير من الأعمال المحلية ترعاهما أم قريبة أيضاً من الأوساط الفنية، وتعمل في مجال تنسيق الأعمال المرتبطة بالعروض الدرامية. |
لا يمكن الجزم أي من المجتمعات العربية أو حتى الإنسانية يدور في خلد المؤلف والمخرج، وإن كان الأول صرح بأن العمل يحمل انفتاحاً على المشهد العربي، لكن يبقى «الضباب» حسب الرؤية الدرامية التي قدمت، قابلاً لتصور فكرة انه رصد لمعاناة انسانية، يمكن ان توجه الى القضية الفلسطينية التي لها دائماً موضع الصدارة في كيان المبدع العربي، كما انها يمكن أن توجه بالقدر ذاته إلى العراق وما يعيشه من انقسامات، وإلى الصومال بكامل مآسي أهلها الإنسانية، من دون أن يقلل ذلك من فكرة ان هذا العمل هو تجربة ترصد معاناة بشر، تتكرر تجاربهم باختلاف المكان، ودوران عجلة الزمان.
ستارة وأسلاك
مشهد مختلف إذا تنفتح عليه ستارة مهرجان «الشباب»، وعبر ستارة مغلقة يتهيأ الجمهور بأنه سيشاهد عملاً يحمل قدراً كبيراً من المعاناة البشرية لأشخاص، ملابسهم البالية التي استقبلت الجمهور في البهو الخارجي للمسرح، تؤكد انهم مهمشون، وهي ملابس ممزقة جاورت بعضاً من القاذورات والأسلاك الشائكة التي تموضعت متجاوزة ستارة العرض قبل أن تُفتح.
مُقدمة موسيقية يمكن أن تكون قياسية، كادت تُسرب مللاً إلى جمهور مشدود لتلقي إجابات عن أسئلة بدأت تتسرب إلى رأسه، قبل أن تقطعها أخيراً جلبة متناحرين، يسعى كل واحد منهم إلى الفتك بالآخر، ثم صوت امرأة عجوز، قامت بدورها صائدة جوائز الأدوار النسائية في مسرح الشباب، الممثلة بدور، التي انفردت هي الأخرى بالحديث عبر تقنية «المونولوج»، في إشارة فنية ثانية إلى أن الإطالة، والاستعانة بتقنيات هي أقرب لأدوات الرواية وليس المسرح، ستكونان احدى مشكلات «الضباب»، ما سلب الكثير من ملامح الحياة التي تضيفها الشخصية المسرحية على الخشبة.
الديكور الذي جاء غنياً ربما أكثر مما يتطلبه الأمر، كان بمثابة نموذج معيشي صادم لحياة المهمشين، ليبزغ من خيم صغيرة متجاورة، أقامتها الأسر ببعض من فراشهم وملابسهم، أمل خافت في الحياة عبر صوت صبية صغيرة تغني إحدى روائع فيروز «أعطني الناي وغن»، لتحكي بعدها بشكل يحمل تناقضاً دلالياً في سياق المشهد، عن املها في أن تنضج وتصبح فتاة جميلة ذات صوت حسن.
«زهرة» أشرقت
دور «زهرة»، الذي أدته الطفلة أشرقت، يبدو محورياً جداً في العمل الذي يحمل رائحة الموت، وتوارث أخطاء الماضي، من خلال فتنة جعلت المجتمع منقسماً، ما جعله لقمة سائغة للأعداء، وفي حين، أن زهرة، وأيضا جميع الشخصيات، مشغولة بالنبش في الماضي، بما في ذلك استجلاب أسباب الخلاف، فإن زهرة هي الوحيدة المتطلعة إلى الغد.
مشهد الخوف، وفقدان الأمن، والحرية والوطن، هو المتكرس هنا، لتتكشف الأحداث عن زوجة شابة، (أم زهرة)، التي تؤدي دورها الممثلة العراقية رشا العبيدلي، فقدت زوجها ومازالت تنتظره منذ أمد بعيد، وشاب يتوسل حبها، لكنها تصنفه ضمن المتسببين في معاناتها ومعاناة أهل المخيم جميعاً، بحكم انتمائه لأحد المعسكرين المتناحرين، في حين يدافع هو عن وجهة نظره، بالآليات بنفسها التي تذكرنا بالفصائل المتناحرة سياسياً وعسكرياً، على الرغم من انتمائهم جميعاً للخندق ذاته بالنسبة للأعداء الخارجيين.
استعارة سلبية
على الرغم من المحتوى الدرامي العالي للأحداث، فإن معاودة الاستعانة بتقنيات السرد وليس الحوار، شكلت استعارة فنية سلبية من تقنيات القصة، أو الرواية، فوجدنا الشاب الذي قام بدوره المؤلف حميد فارس، يسهب في سرد حقيقته، وكيف انه ابن لأم ولدته أثناء وجودها في المعتقل، بعد أن مات ابوه.
آلية السرد نفسها أتاحت للمرأة العجوز أن تكشف للجمهور أيضاً أنها فقدت أبناءها وزوجها وبيتها في هجوم للأعداء، بينما كشفت الزوجة المكلومة مشهد فقدها زوجها، لكن العبيدلي كادت تقوم به تمثيلياً على الرغم من أنه جاء عبر تقنية «الاسترجاع»، محاولة أن ترسم للجمهور مشهد اغتصابها من قبل مسلحين، قاموا باعتقال زوجها، الذي لم يستطع أن يُحرك ساكناً.
الصراع ما بين الشاب الذي يقوم بدوره حمدي فارس، وأحد المقيمين في المعسكر، الذي يصنفه الأول بأنه من معسكر «المندسين»، يكشف أن هذا الرجل ليس سوى زوج المرأة المكلومة، لكنه فضل أن يعيش كل تلك السنوات متخفياً، وعلى الرغم من أن هذا الكشف شكل مفاجأة درامية، إلا ان تلك المفاجأة جاءت ساذجة، لم تراع شغف تلك المرأة الشديد بزوجها، وانتظارها له، على النحو الذي كان حرياً بها أن تكشف أمره. الإعلان عن وصول المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء، كان بمثابة دعوة لأن يهرع الجميع لنيل حصتهم، بما فيهم المرأة المكلومة التي رفضت الصفح عن زوجها، ليأتي بعد ذلك خطر جديد متمثل في لصوص يستولون من سكان المخيم عنوة على المساعدات، مخلفين قتلى جدداً من سكان المخيم، الذين يفكرون في رحيل آخر، في ظل بحث عبثي عن ثلاثية الأمن والحرية والوطن، في حين تموت المرأة الكلومة بين أحضان صغيرتها التي سارعت لتكفينها برداء أبيض انتزعته من بين الأسلاك الشائكة للمخيم.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news