«الربيع العربي» يزهر إبداعاً مختــلفاً
لأن الفن ابن الواقع والخيال معاً، يكشف عن التحولات الخفية والعلنية في حياة الشعوب، ويرصد أفكاراً وأنماطاً حياتية وتغيرات في المجتمعات، كان من المنطقي ان يكون للربيع العربي وثوراته حضور بين أروقة «فن أبوظبي»، الذي استضافته جزيرة السعديات في الفترة من 16 حتى 19 نوفمبر الجاري.
وجمعت الدورة الجديدة فنانين من مختلف الجنسيات، ومن أجيال مختلفة ومدارس شتى عبروا بطرقهم الخاصة عما يموج به الشارع العربي من ثورات وحراك بحثا عن الحرية والديمقراطية والعدالة والحياة الكريمة.
من الأعمال اللافتة التي برز فيها الربيع العربي؛ جدارية للفنان الإماراتي عبدالقادر الريس عرضت في جناح غاليري «هنر»، قد تمثل استلهاما من «جحيم دانتي» وإسقاطا لها على الواقع، إذ انقسمت جدارية الريس إلى قسمين الأيمن غلب عليه اللون الأبيض وزينه عقد من الياسمين وزهور بيضاء، وفي صدر القسم كتبت عبارة «رحمك الله يا زايد الخير»، وحولها تكررت عبارات رثاء مشابهة للفقيد الراحل، وفي الأسفل قليلا كتب الفنان أسماء لقادة أسهموا في بناء أوطانهم والنضال من أجل الحرية مثل غاندي ونيلسون مانديلا ومهاتير محمد. أما القسم الثاني من لوحة الريس فمغطى بالسواد، وحامت على سمائه غربان، وتصدره جزء من الحديث النبوي «وشر أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم«. وفي هذا القسم كتب الفنان اسماء زعماء تجاهلوا شعوبهم ومتطلباتها المشروعة في الحرية والديمقراطية والعدل، مثل ستالين الذي تكرر اسمه أكثر من مرة، والقذافي وعائلة الاسد في سورية. وربما يأتي اختيار الفنان الريس للمباشرة في عمله لشعوره بأن «الواقع لم يعد قابلا للمواربة أو التأويل، وأن الصورة باتت واضحة لا تحتمل الرتوش التي كانت تستخدمها أنظمة مستبدة لتجميل وجهها أمام العالم».
من الأعمال المعبرة عن الثورات العربية، مجموعة من أعمال الفنان اللبناني سمير الصايغ عرضت في جناح غاليري «أجيال»، تحت عنوان «يوميات حرية»، استخدم فيها كلمة «حرية» بخطوط وأساليب فنية مختلفة بحيث اصبحت الكلمة لا تتجاوز الحروف الاربعة، بفضل التكرار في لوحات صغيرة حشدها الفنان في ما يشبه واحدة من التظاهرات التي اجتاحت ومازالت الشارع العربي، أو هتافات تأتي من هنا وهناك تطالب بالحرية قبل ان تتجمع معا في لوحة كبيرة تتوسط اللوحات الأخرى مثل صرخة مكبوتة لسنوات ولم يعد من الممكن كتمانها بعد الان، واختار الصايغ اللونين الأسود والأحمر لما لهما من دلالات تشير إلى ظلم الأنظمة وبطشها في الأسود، وما تفرضه المطالبة بالحرية من تضحيات ودماء في اللون الأحمر.
العراق وفلسطين
الفنان العراقي ضياء العزاوي حرص على رصد مشهد آخر من دفتر أحوال الوطن العربي في بحثه عن الحرية والحياة الانسانية، في عمل جداري عرضه جناح غاليري «ميم»، حمل عنوان «قصيدة رثاء لمدينتي المحاصرة» جسد فيه بالفرشاة، وباللونين الأبيض والأسود فقط حيث لا تحتمل غيرهما، الصورة التي رسمها من قبل الشاعر الراحل عبدالوهاب البياتي، في مرثيته لبغداد التي يرى العزاوي ان صورتها الآن تتطابق مع نبوءة البياتي والتي قال فيها:
«رأيت في عيونها الحزينة:
مباذل الساسة واللصوص والبيادق
رأيت في عيونها: الانسان
يلصق مثل طابع البريد
في إيما شيء
رأيت في عيونها: الطفولة اليتيمة
ضائعة تبحث في المزابل
عن عظمة
عن قمر يموت
فوق جثث المنازل».
وهي صورة يبدو انها لا تنطبق فقط على بغداد، لكنها قد تتفق مع حال مدن أخرى في الوطن العربي.
ومن العراق إلى فلسطين؛ الحاضرة دائما في الميادين العربية وهتافات الثوار المطالبين بالحرية، حضرت أيضا في أعمال الفنانين في «فن أبوظبي 2011»، ومن هذه الأعمال لوحة للفنانة ليلى الشوا «أسوار غزة»، و«إرهاب وفق الموضة» التي جسدت فيها فلسطينيا ملثما بالكوفية الفلسطينية التقليدية، وزينت ملابسه تفاحة مرصعة بالكريستال وكتب عليها «نيويورك».
ثورات عبر الثياب
تفرد غاليري «سوا» بمشروع فني مغاير اعتمد فيه على الثياب موضوعة اساسية يعبر من خلالها الفنانون بأساليب غير تقليدية عن رؤيتهم لمجتمعاتهم وأحوالها، باعتبار ان الثياب تعكس كثيرا من المعاني والدلالات حول صاحبها مثل جنسه وطبقته الاجتماعية والاقتصادية وربما دينه وثقافته. وبين الأعمال التي ضمتها المجموعة كان للربيع العربي حضوره في أكثر من عمل من بينها عمل للفنانين اللبنانيين زينة عاصي وعصام برهوش الذي يجسد فستانا أنيقا يفيض بالأنوثة والنعومة، ولا يملك كل من يراه من بعيد إلا الاعجاب به، خصوصا أنه صنع من دوائر ذات لون ذهبي آسر، لكن المفاجأة التي يدركها كل من يقترب من الفستان ليدقق فيه بنظرة متفحصة، ان حلقاته الذهبية ليست سوى رؤوس طلقات رصاص، في إشارة إلى الازدواجية التي تحملها بعض الأشياء والوجوه اللامعة الجذابة التي نراها، بينما هي في الحقيقة لا تهدف إلا إلحاق الضرر بالآخرين وخدمة أغراض ظالمة.
ومن العراق، قدم الفنان أحمد البحراني صرخة في وجه القتل والظلم عبر تصميم لزي كاهن استوحاه من ملابس كهنة كنيسة بغداد صنعه من المعدن، متسائلا: «من منح شخصا حق قتل أخيه الانسان، ليس لشيء سوى انه يرتدي ثيابا تختلف عن تلك التي يرتديها الأول».
كما عرض الفنان البحراني عملا نحتيا في الهواء الطلق لحطام سيارة اعاد صياغته من جديد ليعبر عن صرخته الاحتجاجية على القتل، وأبرز في اعلى التكوين المعدني الضخم بالونات متصاعدة، في اشارة الى ان الطفولة لم تسلم من القتل ايضا، كما تشير الى روح الحرية التي غدت ترفرف في مناطق عدة من الوطن العربي على الرغم من شدة الطغاة والمستبدين.
ومن وحي ثورة 25 يناير في مصر وغيرها من ثورات المنطقة؛ استلهمت الفنانة نرمين حمام عملها الذي اعتمد في الأساس على الأسلوب الفني للمنمنمات، تبدو فيه الفنانة نفسها وقد ارتدت ملابس الجيش المصري الذي نزل إلى الشارع خلال الثورة المصرية، كما ظهر في جانبي الصورة جنود من الجيش يحملون اسلحتهم، تعبيرا عن حالة التلاحم التي جمعت بين الشعب والجيش في مصر وعبر عنها شعار «الجيش والشعب إيد واحدة».
أما الفنان العراقي غسان غايب فجاء عمله تحت عنوان «صناعة وطن»، وهو عنوان عبر عن مخاوف باتت تهدد الوطن العربي بشكل جدي في الفترة الحالية، كما يرى كثيرون، وهي مخاطر تقسيم الوطن إلى دويلات صغيرة. وعبر غايب عن هذا المعنى مستخدما آلة خياطة قديمة تخيط ثوبا نسائيا على شكل خارطة العراق وقد تمت اعادة تشكيلها، وتم تثبيت المدن والانهار إليها بواسطة «سحّاب» يمكن من خلالها وصلها بالوطن الأم أو فصلها عنه.