ضياع المعايير في قنـوات تلفزيونية
يبدو أن إخفاقات الإعلام الحكومي العربي في تغطية الأحداث التي تمر بها المنطقة، وفقدانه الموضوعية والمهنية والصدقية لدى قطاع كبير من المشاهدين، فتحت المجال واسعا أمام فضائيات خاصة لتعمل بمعايير مهنية، وضعتها هي لنفسها بما يتفق مع وجهة نظر القائمين عليها، ومصالحهم وتوجهاتهم وأيديولوجياتهم، فكانت النتيجة ان ضاعت المهنية والموضوعية في التغطيات والمتابعات ايضا. وهو ما ظهر بوضوح في تناول قنوات مصرية أحداث ميدان التحرير الأخيرة والتي مازالت مستمرة. مع ان التزام الحيادية والتوازن والموضوعية، خصوصا في المواقف ذات الأبعاد الانسانية، لا ينفي كون الاعلامي إنسانا له رأي ومشاعر واتجاهات وخلفية ثقافية واجتماعية وسياسية لا يملك الانسلاخ عنها تماما عندما يبدأ العمل.
على الاعلامي ان يحاول، قدر الامكان، التمسك بالموضوعية من خلال التعامل بتوازن مع الآراء والأفكار المطروحة على الساحة، حتى يقدم في النهاية معلومات وحقائق تساعد المتلقي في فهم الأحداث والأوضاع الجارية. هذه الموضوعية كانت غائبة إلى حد كبير في تغطية قنوات فضائية مصرية، خلال الأيام الماضية، وتحول معظم نجوم «توك شو» على هذه القنوات إلى المتهم والخصم والحكم، وفي بعض الأحيان الضحية أيضا.
ورغم نجاح بعض القنوات في نقل متابعة حية بالكاميرات للأحداث في ميدان التحرير وشارع محمد محمود، مثل قناة «سي بي سي»، و«25»، إلا ان التغطية لم تكن على المستوى نفسه، ويبدو ان المواقف السلبية التي اتخذها بعض الإعلاميين من ثورة 25 يناير، وكانت سببا في إدراجهم على «القوائم السوداء» التي اطلقها ثوار التحرير كان لها تأثير كبير في تحديد تناول اعلاميين للأحداث الحالية في ميدان التحرير أو «ثورة الغضب الثانية»، خصوصا الاعلاميين الذين كانت لهم علاقة بالنظام السابق، أو «يحسبون عليه»، حيث مالت متابعات هؤلاء الإعلاميين للاتفاق الكامل مع الميدان، وتجاهل الرأي الآخر، وطغى على فقراتهم «الصوت المرتفع»، والذي يعكس في نظر أصحاب الحكمة ضعف المنطق. وهو ما ظهر في تناول الاعلامية لميس الحديدي في برنامج «هنا القاهرة» على قناة «سي بي سي» للأحداث، وفي تلقيها مداخلات المراسلين والجمهور وحتى ضيوف البرنامج، والذي اتسم بالتشنج الذي ظهر مفتعلا إلى حد بعيد، ولم يبتعد زميلها خيري رمضان، الذي لاقى هجوما واسعا من الثوار في يناير الماضي عن موقفه المعادي للثورة في برنامج «البيت بيتك» على التلفزيون المصري، عن هذا النهج، وإن كان بدا أكثر هدوءاً واتزانا.
في المقابل، استشعر المشاهد العادي غياب الموضوعية، فجاءت مداخلات البعض عبر الهاتف مع الحديدي ورمضان تتهمهما بالانحياز، وهو ما تقبلته لميس الحديدي، بينما رفض خيري رمضان التعليق عليه.
أيضا الاعلامية دينا عبدالرحمن، التي اكتسبت جانبا كبيرا من جماهيريتها بعد موقفها من مداخلة أحد ضباط الجيش، ورفضها اسلوبه في الحديث ومحاولته املاء ما يجب ان تقدمه وما لا يجب تقديمه، ما ادى إلى وقف برنامجها على قناة «دريم» ومغادرتها للقناة، ثم انتقالها إلى قناة «التحرير». وتصادف أول ظهور لها على القناة في برنامجها «اليوم»، مع بداية الأحداث الساخنة في التحرير في 19 نوفمبر الجاري، فقد وقعت هي أيضا في فخ الافتتاحيات المطولة للبرنامج، والتي تقوم فيها بتوجيه خطابات أقرب للنصائح والحكم، وأفراد مساحة كبيرة من البرنامج لآرائها الخاصة، بما يجعل البرنامج غير واضح الهوية. هل يندرج تحت «توك شو» والتي تعتمد على استضافة شخصيات عدة تناقش قضية اأو قضايا من مختلف جوانبها؟ أم هو برنامج رأي يقوم صاحبه بتقديم آرائه وقراءته للأحداث بشكل فردي؟ أم برنامج استعراض للصحف والعناوين المتداولة في وسائل الاعلام خلال اليوم؟
ويبدو أن رغبة دينا عبدالرحمن في ان تأتي عودتها للشاشة قوية، وأن تقدم برنامجا يتسم بالزخم ويضم «كل شيء»، ادت إلى فقدان البرنامج صيغة محددة له او هوية له.
أما الاعلاميان إيمان عزالدين ويوسف الحسيني، في برنامج «صباح اون» الذي يعرض على قناة «أون تي في»، فقد لجآ في تناولهما للأوضاع إلى السخرية والتندر على ما يجري بأسلوب حمل كثيرا من عدم الاحترافية، إلى جانب ما يبثه من احباط وسوداوية، رغم ان البرنامج صباحي، إذ تمنى الحسيني ان يدخل «سجن طرة»، لأنه أصبح المكان الأكثر امنا في مصر.
على الجانب الآخر؛ حافظ الاعلام الحكومي المصري على تعثره، وأصر على تكرار سقوطه، فجأت تغطيته للأحداث بعيدة عن الواقع، وبالطبع بعيدة عن الموضوعية. أما المتحدثون في البرنامج فهم من مؤيدي المجلس العسكري والحكومة بشكل مطلق، وظهر بوضوح أنهم يحاولون تبرير التجاوزات التي حدثت. لكن الغريب أن أداء قناة «النيل الاخبارية» شهد تغيرا لافتا في يوم 22 فبراير الجاري، فظهر اكثر احترافية وأكثر حرصا على الموضوعية، وظهر ضيوف يهاجمون الحكومة والمجلس العسكري. وأبدت حرصا على التواصل مع ممثلي الشباب في ميدان التحرير، ونقل صورة واقعية عما يجري هناك، ولكن للأسف هذا التغير لم يستمر طويلا، ربما لأنه جاء من مبادرة فردية من القائمين على البث في ذلك اليوم، أو لأن وزير الاعلام في الحكومة المستقيلة اسامة هيكل كان قد توقف عن القيام بمهامه في توجيه أداء «ماسبيرو»، الذي بلغ ذروة الخداع خلال تغطيته تظاهرتي التحرير والعباسية، إذ وضع صورة قديمة لميدان التحرير وهو مكتظ بالمتظاهرين على انه ميدان العباسية وما فيه من متظاهرين مؤيدين للمجلس العسكري، ووضع في الجزء الثاني من الشاشة صورة أخرى لميدان التحرير وثوار