« أنشودة الخيال ».. ســريالية ضدّ القيد
بأجساد مجوفة، وأفواه مكمّمة، ومسامير دقت على أطراف ناعمة، أطلق الفنان العراقي حيدر القسام «صرخة تشكيلية»، يدعم بها تحرر المرأة، وخلاصها من قيود السيادة الذكورية، والخنوع الأنثوي، إذ قدم القسام في معرضه «أنشودة الخيال» بمعهد الشارقة للفنون، 52 عملا فنيا، عبارة عن لوحات مرسومة بألوان الأكريليك بأحجام متباينة، اجتمعت كلها على فكرة الحرية، إلا ان الخيال السريالي طغى على المضمون المرسوم أحياناً.
لم تخدم المدرستان الواقعية والانطباعية القسام في تجسيد فكرة المحابي للحرية، والمطالب بتحرير المرأة من سيطرة ذاتها قبل سيطرة الرجل، لذلك اتجه للسريالية ووجد فيها ضالته، وتأثر بها لدرجة كبيرة، بل وجامحة، إلا انها عكست جانب المعاناة الحقيقية للفنان، وتجربته الذاتية مع قيود الحياة التي طالما رغب في التخلص منها.
وقال القسام لـ«الإمارات اليوم»، إن «المعرض ليس الأول الذي أقيمه، إذ سبقته سلسلة من المعارض التي عكست تجاربي ومعتقداتي في الحياة، إلا أن (أنشودة الخيال) غير المسيرة والخط الفني الذي كنت أتبعه، خصوصاً أني تأثرت بالواقعية والانطباعية على حد سواء، ولكن كلتا المدرستين لم اتمكن من توظيفهما في رسم كابوس كان يراودني منذ سنوات دون انقطاع، وهو أني أجدني مقيداً بحبال تشدني، وأشعر برغبة في التخلص من هذه الحبال دون جدوى، فيأتي الصراع والشعور بالألم والضيق الذي يسببه ذلك القيد».
حلم
المدرسة السرياليةتتميز المدرسة السريالية الفنية التي نشأت في فرنسا، بالتركيز على كل ما هو غريب ومتناقض ولا شعوري، وتهدف إلى البعد عن الحقيقة، وإطلاق الأفكار المكبوتة والتصورات الخيالية وسيطرة الأحلام. واعتمد فنانو السريالية على نظريات فرويد رائد التحليل النفسي، خصوصاً في ما يتعلق بتفسير الأحلام. ووصف النقاد اللوحات السريالية بأنها تلقائية فنية ونفسية، تعتمد على التعبير بالألوان عن الأفكار اللاشعورية والإيمان بالقدرة الهائلة للأحلام. وتخلصت السريالية من مبادئ الرسم التقليدية، والتركيبات الغربية لأجسام غير مرتبطة ببعضها البعض لخلق إحساس بعدم الواقعية، إذ إنها تعتمد على اللاشعور. واهتمت السريالية بالمضمون وليس بالشكل، لهذا تبدو لوحاتها غامضة ومعقدة، وإن كانت منبعاً فنياً لاكتشافات تشكيلية رمزية لا نهاية لها، وتحمل المضامين الفكرية والانفعالية التي تحتاج إلى ترجمة من الجمهور المتذوق، كي يدرك مغزاها حسب خبراته الماضية.
|
في 2005 وجد القسام في السريالية ما يمكنه من رسم حلمه «الرجل المربوط»، وتمثيله في الواقع المنسوج من الخيال، كما وسع من نطاق فكرة القيود إلى المطالبة بالحرية التي حرم منها، وتحديداً حرية المرأة من المرأة نفسها ومن سيادة الرجل، وانتشالها من مستنقع سيطرة الرجل، لافتاً إلى أن «الحرية التي يطالب بها ليست الحرية السائدة والمعتاد المطالبة بها من قبل المجتمعات، انما هي الحرية الذاتية للمرأة؛ كونها أهم من الرجل، قبل ان تكون المساواة بين الرجل والمرأة».
واعتمد القسام في اعماله على فكرة تفريغ الجسد، وذلك انعكاساً للواقع المجتمعي الذي جرد الكائن من انسانيته، مكتفياً برسم رؤوس تحدد الهوية الجنسية للإنسان، دون أن يكون له تكوين جسدي واقعي، واتضح ذلك في احد أعماله التي تمثله شخصياً وكأن جسده مفرغ تماماً وتظهر فيه القيود التي كانت تحيط بالجسد، إضافة إلى المسامير التي أراد بها القسام ايصال فكرة احكام السيطرة وعدم القدرة على التحرك، خصوصاً أن المسامير مطروقة بإحكام في أطرافه الأربعة.
وفي أحد الأعمال، عكس القسام صورة المرأة المغلوبة على أمرها بسريالية طاغية تعتمد على اللاوعي والعقل الباطن، فجسدها وهي معصوبة العينين ومكممة الفم، كما رصد صورة الرجل الأعمى والمرأة الدمية ذات الخيوط والتي يتحكم بها الرجل ويقودها.
أما لوحة الرجل النصف محرر، فقد جسد من خلالها القسام فكرة القدرة على التحرر والتخلص من القيود، وتحرير الأطراف والجسد العلوي الذي تخلص من التفريغ، وامتلأ بالطاقة والارادة، فيما بقي الجزء السفلي مفرغاً ومقيداً، في إشارة إلى أنه في طريقه الي الحرية، كما تعمد الفنان رسم الرجعية والتخلف على شكل حية الكوبرا التي تتربص بالإنسان الذي يسعى للحرية والقادر عليها، على عكس من سبقوه والذين صاروا في عداد الموتى ولم يبق منهم سوى جماجم.
ووظف القسام عشقه للموسيقى في لوحاته، من خلال ايجاد التداخل والتناغم بين المرأة والرجل والعلاقة المتكاملة بينهما، والتعبير عنها برسم اجسادهم على شكل آلات موسيقية، إذ إن كل شيء جميل في الحياة يرمز له بالموسيقى والمرأة، أما الكرة الزرقاء في أغلبية أعماله فتمثل نضوج العلاقة الانسانية.
واتهم القسام بنظرته السوداوية للعالم، ويعكس تلك النظرة في أعماله من خلال استخدام الألوان الغامقة والسوداء التي تجسد المعاناة والانطوائية، وقال الفنان العراقي إن «العالم من وجهة نظري أسود، لذلك أفضل الانطواء والانعزال، والتي أعتبرها شجاعة وليست سلبية، إذ إن السلبية هي التعايش مع واقع مريض».
رأي
إلى ذلك، قال أستاذ الرسم والتلوين في معهد الشارقة للفنون، الفنان محمد جعفر الدويلة، إن «حيدر القسام هو أحد طلابي الذين تخرجوا في معهد الشارقة للفنون، وهو من المبدعين الذين وجدوا ضالتهم في الفن التشكيلي، خصوصاً أن القسام من الأشخاص الانطوائيين والذين يفضلون العزلة على صخب الحياة، ليتمكن من التعبير عن نفسه من خلال أعماله الفنية».
وأضاف ان «القسام في بدايته تأثر مثل بقية زملائه بالمدرسة الواقعية التي أنتمي إليها، وهي المدرسة الأكاديمية التي يمكن من خلالها التفرع إلى المدارس الأخرى، إذ اعتقدت بان القسام لن يحيد عن تلك المدرسة، غير أنه فاجأني بميولة للمدرسة السريالية، والتي تعتمد على الخيال وتجسيد اللاوعي، وهو ما يتناسب مع طبيعة القسام».