رام اللــه.. عشق لا يرحم
يوجع قلبي حب هذه المدينة، ويعربد فيه رافضا أن يهجع، تأسرني نسائمها بعد العصر، وتحرمني من النوم، إنها رام الله التي قضى الله أن تكون البقعة الأحب إلى نفسي بعد قريتي الصغيرة التي ولدت ودرجت فيها، إنها رام الله التي شاء الله أن تكون هكذا بعضا مني بلا سبب منطقي.. نعم فهكذا هو العشق لا يخضع للمنطق أو القانون، إنها نابلس هي الأقرب جغرافياً إلى قريتي من رام الله، وكذلك طولكرم فلماذا رام الله أكثر؟ ليس لدي تفسير ولا أعرف إلا أن المدن الثلاث ما هي إلا نتف وأجزاء من حب أكبر وعشق أعمق هو فلسطين.
إنها رام الله التي يتملكني إحساس عارم ومتدفق، وأنا أتجول فيها إنها تحتضنني بكل حب، حينما يرفضني العالم، وتتسع لي كثيراً حينما تضيق عليّ الدنيا بما رحبت، وعلى الرغم من أن دبابات الاحتلال الإسرائيلي وقواته ترابط على مداخلها وقد تقتحمها في كل لحظة ليلا أو نهارا، بردا أو حرا، إلا أن شعورا لا يوصف وليس له حد، يسيطر على نفسي أثناء تسكعي عند المنارة أو بوظة أو أم الشرايط، وحيث لا أقيم وزن بعوضة لنتنياهو وأولمرت وباراك أو جيشهم، وليس لأي من جلادي العالم ومجرميه، إن شعوري بالحرية وأنا فيها أشد قوة من إحساس ابن عمان وهو فيها، وابن دمشق وهو فيها، وابن القاهرة وهو فيها، على الرغم.. نعم فرام الله أكبر من الاحتلال وأوسع من الاستقلال.. ترى فيها الشيخ الملتحي، والطالب، والمهندس، والمعلم، والعتّال، والسائق، والمقاول وعامل المطعم، والفتاة السافرة، والأخرى المحجبة، والفلاحة بزيها التقليدي، والطبيبة، والشرطية.. نعم إنها خلطة من البشر تجعل من المدينة خلية نحل لا تهدأ.
مقارنة
يا إلهي.. هل جرّب صاحب ضمير حي أو فكر مستنير لديه ذرة من الموضوعية أن يجري مقارنة بين رام الله ودلالها وقبح الاحتلال بجنوده ووحشية دباباته؟ وهل حاول ضيف أجنبي يزعم أنه محايد في الصراع العربي الإسرائيلي، أن يتأمل المستوطنات التي تلوث سحر الطبيعة في التلال المتاخمة لرام الله والسفوح المجاورة لها؟في جنوب افريقيا في عهد نظام التمييز العنصري أحقا كانت هناك طرق للاقلية البيضاء وأخرى للاغلبية الإفريقية؟ نعم هناك شوارع للمستوطنين وليس مهما توافر مثلها لأصحاب الارض الفلسطينيين في رام الله كما في بقية المدن والمناطق ..
«وين عا رام الله
وين عا رام الله
ما تخاف من الله
وانت يا مسافر
ما تخاف من الله»
مقطع من أغنية فلوكلورية قديمة كنت أسمعها في طفولتي يوميا في الراديو، وكذلك خلال سنوات المراهقة من دون أن أستوعب معانيها ومفرداتها البسيطة جيدا، لكنها كانت تشجيني.. وحفظتها غيبا في سنوات مراحل الدراسة المختلفة حتى أصبحت مثل النقش في الحجر.
إن رام الله هي المصيف الأول والأشهر في فلسطين والأردن وتقابلها أريحا المشتى الأول وفي معظم الأيام في الصيف وبعد العصر وفي رام الله قد تحتاج إلى ارتداء جاكيت، في مواجهة الشعور بالبرد.
بوابة الأرض
القدس بوابة الأرض على السماء، وبعطر قداستها هي ملتقى الأنبياء، وكلما اقتربنا منها خطوة باعد شلومو، وموشيه بيننا وبينها ثلاث خطوات، ونابلس والخليل تباهيان بالأسر والعائلات العريقة فيهما، والتي تعتبران كل ما فيهما هو ملكية خاصة، انطلاقا من بقايا تفكير طبقي وعائلي وفيهما بقية من جاهلية وعصبية وسخرية من الفلاحين من أهالي القرى المجاورة لهما، وطولكرم، وقلقيلية تقعان على حافة الخط الأخضر الفاصل بين 1948 ـ ،1967 وفي طقسهما رطوبة عالية وحر شديد في الصيف.. وجنين على أطراف مرج ابن عامر في الشمال، وفي جوها قدر من الحرارة والرطوبة على الرغم من اعتدال طقسها نسبيا لكنها تبدو الأكثر شبها برام الله.
في أسواق رام الله وشوارعها تلاحظ أن أكثرية من سكانها تتحدث العامية الدارجة في القرى المجاورة لها، خصوصا في ما يتصل باستبدال حرف الكاف بحرف «إتش»، فيقولون: «تشنافة» ويقصدون بذلك «كنافة»، و«تشل» ويقصدون بها «كل»، وهكذا يفهم الزائر أن معظم أهالي المدينة هم من أبناء القرى المجاورة، مثل: بدو، دير نبالا، دير دبوان، بيت صفافا، بيت سوريك، وراس كركر، وغيرها قرى كثيرة.
رام الله التي تبعد قرابة الـ15 كيلومترا شمال القدس، سقطت عام ،1967 في قبضة الاحتلال كسائر مدن الضفة، لتعاني الإهمال مثلها، وينالها نصيبها من ممارساته في التهميش السياسي والاقتصادي والسياحي، والتي ترمي إلى قتل أشكال الحياة كافة لدى الفلسطيني، وبقيت كذلك حتى اتفاق أوسلو عام ،1993 حيث دبّت الحياة في أوصالها، واستعادت أهميتها بعد أن أصبحت المقر المؤقت للسلطة الفلسطينية، بسبب رفض إسرائيل أن يكون المقر في القدس الشرقية التي تعرضت لما تعرضت له بقية المدن والمناطق في الضفة، من قمع وتضييق فقد أصبحت عاصمة السلطة الفلسطينية بحكم الأمر الواقع.
قبلة الناشطين
في «المقاطعة» مقر السلطة والرئيس الفلسطيني، في ذلك البناء المزدوج (مبنيان يربط بينهما جسر)، الذي يزين القرميد الأحمر سطحه المخروطي، والذي تدفقت إليه جموع فلسطينية عدة نهارا وليلا، وبعد منتصف الليل وفجرا، لتحمي بأجسادها العارية الراحل ياسر عرفات، المحاصر في ذلك المبنى ذلك الرجل الذي اختلفنا معه ولم نختلف عليه، ترى هل كانت تلك الحشود قادرة حقا على ردع طائرات «الأباتشي» من قصف المبنى، أو الجرافات من هدمه، طوبة طوبة، وجدارا جدارا؟ آهٍ من المقاطعة !! كم من الأحاسيس والمشاعر تتقاطع فيها!! وكم من الغايات والمصالح والأهواء تلتقي و تتقاطع فيها!! وعلى الرغم من كل ذلك يبقى هذا المكان أثيرا ومؤثرا لدى كل فلسطيني، وبؤرة للإثارة بكل ما هو جديد لتعم آثاره الآفاق الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية.. كم أحب رام الله حينما تكون قبلة لتوافد الناشطين من أجل السلام، والمتضامنين الأجانب مع الشعب الفلسطيني، وأحبها ايضا حينما لا تكون كذلك.
آثار العدوان
باقية آثار العدوان المتكرر، والذي يحمل أسماء يبدو بعضها جذابا، للتخفيف من همجيته ووحشيته الباطشة، مثل السور الواقي، الشتاء الحار، والربيع الدامي، وغيرها، وقائمة تلك الآثار مازالت شاهدة في مختلف أنحاء رام الله وفي كثير من مبانيها وشوارعها وكان الهدف من الاقتحامات المتعددة نبيلا للغاية ومشروعا، وهو حماية طائراتهم «الأباتشي» والـ«إف 16» ودبابات الميركافا، والجنود المدججين بالسلاح، حتى أسنانهم، ولديهم القذائف أضعاف ما لديهم من الخبز والماء، من وحشية الإرهاب لدى تلميذ في عمر الزهور، متوجه إلى مدرسته صباحا أو عامل يقلي «الفلافل» في كافتيريا أو كشك على زاوية شارع، أو صاحب متجر يقوم بكنس ومسح مدخل دكانه، أو أم تقوم بنشر غسيلها على سطح منزلها أو شرفته، والأهم من كل هذا منع عاشقين من شبك أيديهما بكل وضوح وصمت في ساحة إحدى الكليات أو المعاهد، أو تحت الأشجار، على جانبي أحد الشوارع، في أم الشرايط أو بيتونيا، أو في جامعة بير زيت، فالحب الفلسطيني أشد خطورة من قذائف «الأباتشي» وصواريخ طائرات «إف 16»، ورصاص القناص الإسرائيلي، الذي يطلق النار في رام الله ونابلس وأريحا ورفح والجولان، دفاعا عن مفاعل «ديمونا» ومصانع القذائف والرادارات والصواريخ في تل أبيب ورامات غان.
لماذا نحب رام الله؟
«ليش» بنحب رام الله؟ قلت لصاحبي: أنا في حيرة حقا بشأن أسباب كل هذا الحب بهذا العمق، وهذا الجمال الذي نحمله لرام الله، فما هي يا ترى؟ فأجاب هناك أكثر من 1000 سبب وسبب لذلك، فمثلا أنك تسير فيها وكأنك تعرفها منذ عشرات السنين، وتشعر كأنك فتحت عيونك على الدنيا وأنت فيها يتميز أهلها بحسن العشرة ودفء المعاملة والخدمة مع الغريب والقريب والضيف والمحلي والبساطة والبعد عن التكلف، وإذا ما وجدت نفسك مفلسا فلا بد أن تجد لك صاحبا أو معرفة، يدفع عنك لسيارة الأجرة أو حساب المقهى، وربما تجد أكثر من اثنين يتعاركان ليدفعا عنك، وأمر عادي أن ترى أحدهم يصلي العشاء في جماعة ثم يذهب إلى ملهى ليلي أو فندق أو حانة، وكل الناس هناك، وأنت منهم تعرف قهوة «أبو الحبايب»، وقهوة العربي وقهوة البرازيل ـ بمعنى مقهى ـ و«فلافل» عبدو وشاورما أبوالعبد وملحمة دقماق، وفي رام الله تجد أن الجميع يتحدث في السياسة، ويعرف قيادات وشخصيات مؤثرة، ومستعد أن يلعب لك دور الواسطة، وفيها أيضا يصعب عليك جدا العثور على شخص واحد يعمل في وظيفة واحدة أو عمل واحد، بل أقول لك: ذلك مستحيل، وفي رام الله كثير من الناس يتحدثون الإنجليزية، ويحملون كاميرات وآلات تصوير وحقائب صغيرة على أكتافهم، وفيها تجد امرأة تبيع فجلا وبصلا أخضر ونعنع على الرصيف، وهي قادرة على أن تبيعك وتشتريك أنت وعائلتك وبلدك وفيها «الحسبة» دائما في حالة ازدحام و«عجقة»، سواء أكان أول الشهر أو آخره، كانت هناك رواتب أو لم تكن، وفي رام الله يمكن أن تفطر حمصا وفولا، وتتغدى «فلافل» وشاورما، وتتعشى مشاوي، أو تجد أشخاصا يأكلون هذه الوجبات في وقت واحد ومطعم واحد، وفيها تجد أن كل الناس يعملون في كل شيء، ويقومون بالسمسرة على أي شيء، ويتاجرون في أي شيء، وفيهم من يتحدث بالدينار، ومن يتحدث بالدولار، ومن يتحدث بالشيكل، أما الصامت الذي يمسك عن الكلام فلديه من هذه العملات الثلاث الكثير.. وفي رام الله لا يمكن أن يمر يوم بلا ندوة أو سيمنار أو ورشة عمل أو عرض موسيقي أو فني أو مسرحي أو مؤتمر صحافي.. قلت لصاحبي: كفى! وليس من داع أن تواصل سرد الأسباب حتى الـ..1000 فاشهد أنني عاشق لرام الله، وتعطلت لغة الكلام . أحبك يا رام الله، صيفا وشتاء، وفي الفصول الأربعة، صباحا ومساء، وعلى مدار الساعة، بكل ما فيك من بيوت عادية وتحف معمارية، بكل ما فيك من أزقة ضيقة وحارات شعبية، بكل ما فيك من سيارات واختناقات مرورية، أحبك لأنك عشق أبدي، لأنك قيثارة لأنك الفؤاد، والهوى، والهوية.
عاصمة ثقافية
قبر محمود درويش في حديقة البروة برام الله. أرشيفية |
رام الله أيضا عاصمة ثقافية لكل فلسطيني، ففيها حديقة البروة التي تحتضن قبر الشاعر الفلسطيني محمود درويش والذي تحول إلى مزار لكل مثقفي العالم، وعدد من المراكز الثقافية، فهناك بيت الشعر الذي يعنى بكل أنواع الإبداع الشعري ومسرح السراج ومسرح سينما تك القصبة، الذي يلعب دورا كبيرا في توعية النشء بقضايا وطنه وهموم شعبه ومؤسسة رام الله التي تهتم بالفنون والثقافة وتنمية القيم الوطنية الفلسطينية ولا تتوقف هذه المؤسسات وغيرها من الهيئات عن تنظيم الفعاليات الثقافية واستضافة الأنشطة الفنية العربية والعالمية على مدار العام، إضافة على عرض الأفلام الثقافية وإقامة الندوات التعليمية التي تهتم بالفنون.
ومن السهل أن نلاحظ أن مستوى الحياة الاقتصادية لأهالي رام الله يفوق كثيرا نظيرتها في فلسطين، ويمكن إرجاع ذلك إلى أسباب عدة، أهمها القوة الشرائية العالية لديهم، ونزعتهم إلى الرفاهية والتحويلات المالية الكبيرة من أبنائها المغتربين، في الولايات المتحدة خصوصا، وأميركا اللاتينية وأوروبا عموما، خصوصا بعض القرى المجاورة، التي ترتفع فيها نسبة الاغتراب، مثل: ترمسعيا، سلواد، رمون، بيتين، المزرعة الشرقية، الطيبة، وعين يبرود، وعلى الرغم من الاحتلال وبعد ثماني سنوات من الانتفاضة، نجح أهالي رام الله في الحفاظ على أنشطة اقتصادية وثقافية واجتماعية، جعلت منها أفضل المدن حالا في ظل الاحتلال وقبح ممارساته.
ثلاثة كنا نتسكع ونقهقه في أحد الشوارع باتجاه المقهى الذي أصبح بشيشته وقهوته جزءا من حياتنا اليومية في رام الله، فإذا بعجوز يعترضنا صارخا: عيب عليكم! كيف تضحكون وإخوانكم في قطاع غزة جائعون؟! وليس عليهما لوم كثير من اللوم، بل أنت يا عيب الشوم عليك، فأنت الأكبر ـ مشيرا إلي ـ فوجمنا كأن على رؤوسنا الطير، تغير مزاجي وتحول إلى نقيض ما كان عليه، في حين انهمك صاحباي في إصلاح ما فسد من حالاتنا المزاجية وإعادتي إلى ما كنت عليه، فتارة يقول أحدهما: دعك منه، فماذا يمكننا أن نفعل لإخواننا في غزة غير التبرع بالمال والدم وتقديم المساعدة وقد فعلنا. ويقول الثاني: المهم أن يكون ضميرك مرتاحا تجاه ما قمت بشأن أهلنا في القطاع، اضحك وفرفـش يا عم انت في رام الله.