«النكته».. زوّادة المصريين في أيامهم الصعبة
في قاموس شعبي كتبه المؤرخ المصري أحمد أمين قبل أكثر من 60 عاماً ما يمكن أن يكون قراءة لسيكولوجية المصريين، بعد الاحتجاجات الحاشدة التي أنهت حكم الرئيس السابق حسني مبارك في فبراير الماضي. ومن هذه الصفات حب البشاشة والفكاهة والنكتة حتى إنه ينقل عن رائد علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون (1332-1406) قوله «أهل مصر كأنهم فرغوا من الحساب» أي لا يبالون بالعواقب وهو ما سجله أيضا المؤرخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (1364-1442) الذي ينقل عنه أمين قوله «وعدم الإمعان في حساب العواقب يستتبع الفرح والمرح»، وهو ما يفعله المصريون بامتياز.
وعقب وصول المتظاهرين إلى ميدان التحرير مساء 28 يناير الماضي في ما سمي «جمعة الغضب» ارتفعت في الميدان في اليوم التالي لافتات ساخرة كتبت بعضها بخطوط غير جيدة، لكنها تعبر عما يراه كثيرون «الروح المصرية» ومنها تشبيه مبارك بالعفريت الذي يجب أن يخرج من الحكم.. «لو كان عفريت كان انصرف»، و«تنبيه.. ممنوع حرق مبارك في مصر.. أحسن يطلع عفريته»، و«مبارك يريد تغيير الشعب».
وتوالت اللافتات والشعارات الاحتجاجية دون تفكير في مسار مستقبلي، فلم تكن لدى الحشود آمال قريبة في خروج سريع لمبارك ونهاية لحكمه. وبعد انتخابات مجلس الشعب التي حقق فيها الإسلاميون تقدما على القوى الأخرى اقترح ساخرون في مواقع التواصل الاجتماعي تغيير أسماء أفلام مصرية منها «امرأة ناقصة عقل ودين»، بدلاً من «امرأة متمردة»، و«سلام ياصاحبي ورحمة الله وبركاته» بدلاً من (سلام يا صاحبي) و«ليلة القبض على الأخت فاطمة» بدلاً من «ليلة القبض على فاطمة» وتغيير اسم فيلم «الباحثات عن الحرية» لإيناس الدغيدي التي لا تخفي عدم ارتياحها لحكم الإسلاميين إلى «الباحثات عن الحرية والعدالة» في إشارة إلى الحزب الذي أسسته جماعة الإخوان.
في «قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية» يقول أمين «ومن غريب ما نلاحظه في هذا الباب أن أشد الناس بؤسا وأسوأهم عيشة وأقلهم مالا وأخلاهم يدا أكثر الناس نكتة... ونجد ابن النكتة محبوبا مقدرا يفتقد إذا غاب ويبجل إذا حضر كأن الطبيعة التي تداوي نفسها بنفسها رأت البؤس داء فعالجته بالنكتة دواء»، ولهذا عرف إعجاب المصريين باختراع النكات والتفنن فيها. ويأسف المؤلف لعدم عناية الأدباء بتدوين النكات وترفعهم عن ذلك استصغارا لشأنها.
ويقول إن الأدباء والنقاد «ليسوا في ذلك منصفين... الحق أن تاريخ الفكاهة هو تاريخ الأدب وجد معه منذ نشأته وترقى أو انحط أيام رقيه وانحطاطه وكانت عناية الفرنج بالفكاهة ودراستها في أدبهم وتاريخهم أكثر من عنايتنا في أدبنا. وعرض لها النقاد عندهم كما عرضوا لكل أنواع الأدب وطبقوا على النكت ما قالوه في الفن الجميل»، مسجلا أن معرفة مستوى الذوق في أي أمة يعرف من دراسة الفنون والأزياء والنكات. ويرى أن بعض نكات حافظ إبراهيم (1872-1932) المعروف بشاعر النيل «قد تفوق بعض قصائده وتدل على حضور البديهة وحسن الذوق أكثر مما يدل عليها الشعر. فحبذا لو التفت الأدباء إلى قيمة النكتة وعنوا بها عنايتهم بالأدب الكلاسيكي». ويرجح المؤلف أن مصر «أشهر أمة بالنكتة» في العالم الشرقي وهي في هذا الشأن «تفضل الشام والعراق والحجاز». دار الشروق طرحت طبعة جديدة من القاموس وتقع في 353 صفحة كبيرة القطع وصمم غلافها الفنان المصري عمرو الكفراوي. وفي مقدمة القاموس يقول المؤلف إن مجلة الإذاعة استكتبته «في نحو عام 1938» فاختار مقالات في العادات والتقاليد المصرية عنوانها (دائرة المعارف المصرية) وحين اختير عميدا لكلية الآداب في العام التالي نصحه البعض ألا يستمر بحجة أن هذه المقالات «تتنافى مع جلال العمادة. مع أنها كانت في اعتقادي أجل من عميد»، مسجلا تقصير المؤرخين حين أهملوا الجوانب الشعبية وهم يكتبون التاريخ «اعتزازا بأرستقراطيتهم مع أن الأدب الشعبي في نواحٍ كثيرة لا يقل شأنا عن اللغة الفصحى وآدابها»، وأن في أمثلة المصريين وزجلهم ما لا يقل بلاغة عن شعر امرئ القيس.
ويقول أمين إن الشاعر الساخر الذي ولد بالموصل عام 1248 ميلادية وأقام منذ صباه بالقاهرة شمس الدين محمد بن دانيال «من الأعلام لأن له شخصية مصرية واضحة كالبهاء زهير»، وكان له دكان في القاهرة يكحل في عيون الناس واشتهر بالفكاهة والسخرية ويعد من رواد فن خيال الظل في عهد السلطان الظاهر بيبرس. ويضيف «وربما عددته أول روائي مصري فقد كان يؤلف الروايات تمثل في خيال الظل وبقي بعضها إلى اليوم».
ومن الأمثلة التي يضربها أمين على ما يعرف بالمزاج الشعبي قوله تحت عنوان (أزرق) إن «الأزرق» يسميه المصريون أخضر من باب التفاؤل وكرها للزرقة فيقولون إن فلانا «نابه أزرق» بمعنى أنه خبيث مكار»، ولذلك سموا العتبة الزرقاء بالعتبة الخضراء وكانت عتبة لبيت من بيوت أمراء هذا الحي «الذي يفصل القاهرة الفاطمية عن القاهرة الحديثة التي أنشأها الخديو إسماعيل الذي حكم البلاد بين عامي 1863 و1879» .