«فنان إفريقيا الأول» غاب بعد مسيرة فنية ونضالية

«وردي» غنّى للحرية والسودان.. ورحل

محمد وردي ارتبط اسمه بالأناشيد الوطنية السودانية. أرشيفية

فُجع السودانيون، والوسط الفني بصفة خاصة، برحيل عملاق الفن السوداني وقيثارته «فنان إفريقيا الأول»، الموسيقار محمد عثمان وردي، الذي توفي أول من امس، عن عمر يناهز 80 عاماً، إثر علة لم تمهله طويلاً. وهو من مواليد ،1932 قرية صواردة جنوب مدينة عبري بالولاية الشمالية. واشتهر الفقيد بالغناء للوطن بأكثر من 88 عملاً وطنياً، أشهرها «الأكتوبريات»، وهي مجموعة من الأغنيات الوطنية لثورة 21 أكتوبر .1964 عمل وردي في بداية حياته في التدريس، وكان ناشطاً نقابياً في رابطة المعلمين السودانيين، قبل أن يحترف الغناء عام .1957

بدأت مسيرة وردي الفنية في خمسينات القرن الماضي، وارتبط اسمه بالأناشيد الوطنية التي برز فيها التوجه اليساري الثوري، خصوصاً في بداية حياته، لكنه خلّف كذلك العديد من الأغنيات العاطفية. ويعتبر الفنان وردي من كبار الفنانين السودانيين والأفارقة، ومن الرواد الذين اختطوا لأنفسهم نهجاً خاصاً.

في عام 1953 زار وردي العاصمة الخرطوم للمرة الأولى ممثلاً لمعلمي شمال السودان في مؤتمر تعليمي عقد آنذاك، ثم انتقل إلى العمل في الخرطوم بعد ذلك، وبدأ ممارسة الفن هاوياً حتى عام ،1957 عندما تم اختياره بواسطة الإذاعة السودانية بعد تجربة أداء ناجحة وإجازة صوته، ليقوم بتسجيل أغانيه في الإذاعة.

وتحقق حلم طفولته في الغناء في الإذاعة بين الفنانين العمالقة آنذاك. وخلال عامه الأول في الإذاعة تمكّن وردي من تسجيل 17 أغنية، ما دفع مدير الإذاعة في ذلك الوقت إلى تشكيل لجنة خاصة من كبار الفنانين والشعراء الغنائيين، لتصدر قراراً بضم وردى إلى مطربي الفئة الأولى مغنياً محترفاً، بعد أن كان من مطربي الفئة الرابعة.

تغنى وردي للوطن العربي ولإفريقيا ولوطنه السودان، وتغنى للعدالة والحرية والديمقراطية، وخلّف أكثر من 300 أغنية.

برز نجمه في منطقة السّكوت، وذاع صيته في وادي حلفا، وحمل من قريته آلة العود وسافر إلى العاصمة ليقدم الغناء النوبي في الإذاعة السودانية، وليغني بالعربية لكل السودان. قدّم وردي في مجال الغناء السوداني ما تضيق عنه الأسطر. وللرجل جوانب عدة في مسيرته الإبداعية، التي يحصرها الكثير في كونه مطرباً، فنّاناً، موسيقياً، وطنياً منافحاً، وكان شاعراً أيضاً، وله ديوان باللغة النوبية. بدأ وردي مسيرته في الغناء النوبي بالتروّي الملحوظ في التناول، لم يغامر بملكاته الشعرية والموسيقية المبكرة في تجاوز الوجدان التقليدي، لكنّه تغنّى بها ووضع بصماته الخالدة في الكثير منها مثل «أسمر اللونا»، و«ملاك» و«الليله ياسمرا»، ثمّ وضع أشعاره ولون أدائه المتميز في خريطة الغناء النوبي جامعاً بين فنون الأداء لـ«أغاني الطار» و«أغاني الطنبور»، وقنّن الموضوعية سمةً ملازمة لمضامين نصوصه المغناة.

والمعروف عن وردي أنه من أساطين المتحدثين باللغة النوبية، والملمّين بشوارد مفرداتها ودقيق مأثوراتها وحكمها وأمثالها. وتميّز برهافة الحس ودقة التعبير عن مشاعره، وقد أشار في إفاداته الأخيرة في جريدة الصحافة السودانية إلى أن هذه الملكة الكبيرة لناصية اللغة ليست نتيجة اجتهاد وبحث فحسب، لكنها خاصية لغوية عرفت بها قريته صواردة.

تميز وردي بإدخاله القالب النوبي والأدوات الموسيقية النوبية في الفن السوداني، مثل الطمبور، كما عُرف عنه أداء الأغاني باللغتين النوبية والعربية. ويعتبره كثيرون مطرب إفريقيا الأول، لشعبيته غير المسبوقة في منطقة القرن الإفريقي وإثيوبيا وغرب إفريقيا. ويمتلك وردي جماهيرية جارفة في السودان وإثيوبيا وإريتريا وتشاد والكثير من الدول الإفريقية.

عرف عن وردي انطلاقه في تقديم أعماله الوطنية من قناعاته السياسية، إذ قدم عملاً فنياً لتأييد انقلاب الجنرال إبراهيم عبود عام ،1958 لكنه قدم أعمالاً أخرى تخليداً لثورة 12 أكتوبر 1964 التي أطاحت بحكمه. وعقب انقلاب الرئيس السابق جعفر نميري عام ،1969 قدّم وردي أناشيد تدعم نظام الحكم الجديد، عندما كانت توجهاته اشتراكية، لكنه قدم كذلك العديد من الأعمال الفنية احتفالاً بسقوط حكمه في ثورة أبريل .1985

واشتهر وردي بمواقفه السياسية ونشاطه عبر الحزب الشيوعي السوداني، إذ اعتقلته حكومة جعفر نميري في سبعينات القرن الماضي.

ويعد وردي من أكثر الفنانين السودانيين الذين قدموا أعمالاً غنائية لاستقلال السودان وللانتفاضة الشعبية ضد الديكتاتورية في عامي 1964 و.1985

وعقب وصول الرئيس عمر البشير إلى السلطة، بنتيجة انقلاب في 30 يونيو ،1989 جاهر بمعارضة الحكومة، وغادر السودان، ليمكث 13 عاماً في المنفى الاختياري، قضى معظمها في القاهرة، ولم يعد إلى الوطن إلا في عام .2005

غنّى وردي للعديد من الشعراء السودانيين، من بينهم محمد مفتاح الفيتوري، وصلاح أحمد إبراهيم، ومحجوب شريف، وعمر الطيب الدوش، ومحمد المكي إبراهيم. وكانت له ثنائية شهيرة مع الشاعر الراحل إسماعيل حسن، نتجت عنها أكثر من 23 أغنية.

مُنح الدكتوراه الفخرية من جامعة الخرطوم في عام ،2005 تقديراً لمسيرته الفنية لأكثر من 60 عاماً، ولأدائه ما يزيد على 300 أغنية، وباعتباره أسطورة فنية سودانية خالدة وموسوعة موسيقية.

أخيراً رحل الصرح السوداني الشامخ الذي عطّر سماء الفن نحو 50 عاماً بأغانيه وألحانه الرائعة، وبانتقائه أجمل الكلمات.. رحل وردي صاحب أغنيات «الطير المهاجر»، و«المرسال»، و«بعد ايه»، و«غلطة»، و«لو بهمسة»، و«صدفة»، و«أصبح الصبح»، و«عرس السودان»، و«بيني وبينك والأيام»، و«هدية»، و«بناديها»، و«يا بلدي يا حبوب»، و«يا أعز الناس»، و«الود»، و«الجميلة ومستحيلة».

وظل وردي وفياً لمعتقده، ولم ترهبة العصا، ولم يغره العطاء حتى ساعة رحيله، مردداً: «قلت ارحل».

تويتر