«سوترا».. جسد يتجاوز حدود اللغة
الجسد وحده كان صاحب الكلمة العليا في عرض «سوترا»، الذي قدمه الفنان ومصمم الرقصات المغربي سيدي العربي شرقاوي مع رهبان الشاولين، حيث استطاع الجسد ان يحل محل اللغة، وان يحمل في تحركاته المدروسة جيدا معاني على درجة من العمق قد تعجز كثير من الكلمات عن التعبير عنها بمثل بلاغة الجسد.
من بيده مقاليد اللعبة؟ وهل كما تبدأ تنتهي؟ سؤالان من تساؤلات عدة قد تطرأ على ذهن المتابع للعرض الذي قدمه الفنان شرقاوي مع 17 من رهبان معبد مقاطعة شاولين في الصين، أول من أمس، في قصر الإمارات ضمن فعاليات مهرجان أبوظبي، الذي تنظمه مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، فرغم ان العرض حفل باللوحات الحركية التي جمع فيها شرقاوي بين جماليات الرقص المعاصر وفنون القتال التي تبرز قدرات الرهبان، مثل الكونغ فو، إلا انه حمل أيضا الكثير من المعاني المتضمنة بين الرقصات.
فلسفة صينية فكرة العرض بدأت مع مصمم الرقصات العالمي سيدي العربي شرقاوي، بعد قيامه بزيارة معبد شاولين في مقاطعة خينان الصينية، والعمل عن قرب مع رهبان المعبد لشهور، حيث تولدت لديه رغبة في الاطلاع الواسع والاهتمام باستكشاف المزيد حول فلسفة حياة وعقيدة رهبان الشاولين، وعلاقتها بفن الكونغ فو، خصوصا ان هؤلاء الرهبان عرفوا باتباع تعاليم صارمة ضمن البوذية. وتشكل ممارسة فنون القتال والدفاع عن النفس «تاي شي»، و«كونغ فو»، جزءاً لا ينفصل من نظام حياتهم اليومية.
|
في خلفية رمادية خلت من الديكورات، بدأ العرض بسيدي العربي شرقاوي جالسا مع طفل صغير ينظم مجموعة من الصناديق الصغيرة كما اراد، ووفقا لما يرسمه تشكلت مجموعة مماثلة من الصناديق الكبيرة على خشبة المسرح. ومن هذه الصناديق خرج أحد الرهبان الذي بدأ يؤدي حركات قتالية يرسمها شرقاوي بيديه في التوقيت نفسه، كأنه هو الذي يسيطر على تحركات الراهب، او ان ما يحلم بالقيام به، قد يراود في الوقت نفسه شخصا آخر يقيم في الجهة الأخرى من العالم. هذا الانفتاح على التأويل يتواصل طوال العرض الذي يفتح مساحة للحوار بين المشاهد وذاته، بنفس مساحة الحوار التي يفتحها أمام شرقاوي مع الرهبان رويداً رويداً، حيث يبدأ العرض بحالة من التباعد وربما العداء بين الرهبان من ناحية، وشرقاوي «الغريب عنهم» من جهة أخرى، ومع الوقت وعبر عدد من الرقصات المتبادلة تتقارب المساحة بين الطرفين، ويذوب العداء الذي يتحول إلى انسجام كامل في نهاية العرض، بحيث يؤدي شرقاوي حركات الرهبان القتالية المعروفة، والتي استمدوا حركاتها من تحركات الحيوانات كالحية والعقرب والنمر وغيرها، كما يشاركونه حركات الرقص المعاصر في حالة من التآلف.
رغم خلو المسرح من الديكورات؛ إلا ان مصمم الديكور الفنان انتوني غورملي، الحائز جائزة «تيرنر»، استخدم 21 صندوقا، كانت عنصرا مهما في الرقصات، التي دارت فوقها او بداخلها او تحتها في بعض الأحيان، فقد لازمت هذه الصناديق الرهبان على المسرح، كما لازمت شرقاوي، وان كان صندوقه اختلف عن صناديق الآخرين بلونه الفضي في اشارة لاختلاف الهويات، هذا التلازم بين الصندوق والشخص يفتح ايضا بابا على التأويل، فربما كان الصندوق الخشبي رمزاً لعالم كل منا الخاص الذي يعيش بداخله منعزلاً عن الآخرين، وربما يكون هويته ومعتقداته التي تقف بينه وبين تقبّل الآخر، ويتمسك بها ليحتمي من الضياع والتماهي أمام الآخر.
إلى جانب هذه الرمزية، كان للصناديق دور بارز في اظهار مهارات الراقصين وقدراتهم على أداء حركات صعبة، فالرهبان رقصوا فوقها وقفزوا من عليها وتحركوا بها وفيها بخفة عالية، كما استخدموها في تشكيل تكوينات من الديكور خلقت حيوية على المسرح. بينما حول شرقاوي والراهب الطفل الذي شاركه العرض، وكان من أبرز نجومه، بفضل ما يمتلكانه من مرونة فائقة فضاء الصندوق الضيق إلى مساحة كافية تتسع لتقديم العديد من الحركات التعبيرية التي اتسمت بمهارة فائقة، وتحركا بداخله وكأنه عالم يتسع ويضيق بقدر رغبتهما، بل ربما بقدر قدرتهما على التوافق والانسجام معاً.
وقدم الرهبان الـ17 حركات راقصة واخرى قتالية منحت المشاهد شعورا بان ما لديهم من طاقات روحانية وتدريبات طويلة تمتد سنوات، جعلتهم قادرين على تحدي قوانين الجاذبية، والتمكن من الانعتاق منها ولو للحظات.
وكانت الموسيقى من العناصر التي لعبت دورا مهما في العمل؛ فقد اتجه القائمون على العرض الى استخدام موسيقى حية، من ألحان الملحن البولندي سيمون بروسكا، وقامت بأدائها فرقة موسيقية صغيرة جلست في خلفية المسرح، وليس اسفله كالمعتاد، ولكنها ظهرت كتهويمات شبحية تجلس خلف ستار أسود. ونجحت الموسيقى في التعبير عما يدور على خشبة المسرح، فبدأت هادئة مثل الرقصات، لتعلو بعد ذلك تدريجيا مع ارتفاع حدة الصراع بين الراقصين، كما عبرت عن حالات التوحد التي كان يمر بها بطل العرض، الفنان شرقاوي، داخل صندوقه، وفي بعض الأحيان كانت تصمت الموسيقى تماماً تاركة المساحة لتعبيرات الجسد وبوحه او صراخه.
الإضاءة على المسرح ايضا تم توظيفها بشكل جيد، خصوصا عندما يظلم المسرح، وتظهر بقعة ضوء تنير تتركز على الراهب الطفل وهو يؤدي حركاته الراقصة، او على شرقاوي وهو يجلس ويلعب، محاولا رسم طريقه في الحياة، او يحاول التخلص من أسر صندوقه، لينطلق نحو الآخر ويتآلف معه، او يتقوقع بداخل الصندوق محتميا فيه.
وقال الفنان شرقاوي إن «العرض هو نتاج طبيعي لسنوات من العمل الجاد الذي توج نجاحنا عبر جمع شغفنا بالموسيقى مع العروض الاستعراضية والفنون القتالية. ولقد أسعدنا كثيراً بردود الفعل الإيجابية التي عبر عنها جمهور مهرجان أبوظبي بهذا الحضور.
وقالت مُؤسسة مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، المؤسسة والمديرة الفنية لمهرجان أبوظبي، هدى الخميس كانو، ان «العرض لا تكمن جمالياته الفنية فقط في ما قدمه كل من سيدي العربي شرقاوي وأنتوني غورملي وسيمون برزوسكا مع رهبان الشاولين، بل أعمق من ذلك بكثير، فهو يجمع بين حداثة الاستعراضات الآتية من الغرب، ويذيبها في بوتقة واحدة وبكل انسيابية مع حضارة شرقية عريقة متجذرة عبر آلاف السنين، مثل الحضارة الصينية».