حب وأساطير.. على خُطى ملوك البرتغال القديمة
تزخر البرتغال بالعديد من الأماكن السياحية التي يمكن أن يقصدها السياح، ولا تقتصر هذه المزارات على المدن الشهيرة فقط مثل مدينة الغارف أو العاصمة لشبونة، فهناك العديد من المدن الصغيرة الأخرى التي تستحق الزيارة في وسط البلاد، في منطقة تقع شمال تيخو، التي تحوي بين جنباتها الكثير من المعالم السياحية والنصب التذكارية والأيقونات المعمارية التي ترجع إلى حقبة العصور الوسطى، وكذلك بعض الآثار التاريخية من الفترة التي تسبق الرحلات الاستكشافية الكبيرة.
ويذكر التاريخ أن هذه المنطقة شهدت قصة حب لاتزال تدمي القلوب وتثير دموع وأشجان الأمة البرتغالية حتى اليوم، وهي قصة الحب الخالد الذي جمع بين فؤاد الأمير بيدرو والجميلة أغنيس قبل ما يربو على 700 عام، حين عاش الحبيبان سنوات عديدة في سعادة غامرة، إلا أن والد الأمير بيدرو، الذي كان متوجاً على عرش البرتغال، أوعز بقتل الفتاة الجميلة، لأن هذه العلاقة لم تكن مناسبة من وجهة النظر السياسية، لكن هذه الجريمة لم تقض على حب هذا الأمير العاشق، إذ إن قصة حب بيدرو وأغنيس استمرت حتى يومنا هذا، حيث يرقد الحبيبان في مواجهة بعضهما بعضاً.
وفي داخل الكنيسة بمدينة الكوباكا، يبرز قبر المحبوبة أغنيس على الجانب الأيسر من جناح الكنيسة، حيث يستقر فوق التابوت تمثال حجري لهذه الفتاة الجميلة، أما على الجانب الأيمن من جناح الكنيسة فيظهر قبر الأمير بيدرو، الذي يعلوه أيضاً تمثال لهذا الأمير العاشق. وقد تم تصميم هذين القبرين على هذا النحو حتى تتلاقى عيون الحبيبين مرة أخرى، على الأقل من وجهة نظر الأمير بيدرو.
وتقع مدينة الكوباكا على مسافة 125 كيلومتراً تقريباً شمال العاصمة البرتغالية لشبونة، وتزهو هذه البلدة الصغيرة بواجهة الكنيسة القوطية التي تبرز في مواجهة ساحة البلدة، وتكتسي الواجهة الرئيسة للدير بثياب بيضاء مشرقة تحت أشعة الشمس الساطعة. وينظر كثيرٌ من الخبراء إلى دير الكوباكا باعتباره واحداً من أروع النماذج الأوروبية لفن سسترسن المعماري.
وتزدان الجدران في القاعة الملكية ببلاطات زرقاء تحمل السمات المتفردة للبرتغال، إضافة إلى مناظر ورسومات مستوحاة من تاريخ البرتغال العريق، وبعد ذلك يتنقل السائح إلى أديرة الرهبان البديعة التي تحيط بالفناء الداخلي الذي تصطف على جانبيه الأشجار. ويزخر هذا الدير السابق بالعديد من الغرف التي تنتزع صيحات الإعجاب من الزوار، ومنها قاعة الطعام التي تحتوي على منبر للوعظ، إضافة إلى المهجع، حيث كان ينام الرهبان.
وتضرب مدينة الكوباكا بجذورها في عمق التاريخ، إذ يرجع تاريخ نشأتها إلى فترة نشأة البرتغال تقريباً، حيث شهد عام 1148 قيام ألفونسو هنريك، أول ملك يجلس على عرش البرتغال، بوضع حجر الأساس لهذه الكنيسة، وفي هذه الفترة كانت البلاد تئن تحت وطأة الصراع بين المسيحيين في الشمال والموريسكيين في الجنوب.
أما البلدة التالية، التي تبعد 20 كيلومتراً شمال مدينة الكوباكا فتحمل اسم «باتالا»، الذي يعني باللغة العربية «المعركة». ويرجع اسم هذه المدينة إلى معركة ألخيوباروتا التي دارت رحاها عام ،1385 وحقق فيها البرتغاليون نصراً مدوياً على الإسبان.
وبعد أن تمكن ملك البرتغال جواو الأول من هزيمة أعدائه، أوفى بالنذر الذي قطعه على نفسه، وقام بتأسيس دير «موستيرو دي سانتا ماريا دا فيتوريا» أو ما يعرف باسم دير سيدة النصر المقدسة، الذي لايزال محتفظاً بروعة وعظمة بنائه حتى اليوم.
ويعتبر هذا الدير تحفة معمارية فريدة من نوعها، حيث شهد المبنى إضافات عدة على مر العصور، حيث تظهر الكثير من الأجزاء المشيدة على غرار نمط مانويلاين الذي ظهر في الفترة التي تدور حول عام ،1500 وهو أسلوب برتغالي من الفن القوطي المتأخر، وترجع تسميته إلى الملك مانويل الأول 1469 - ،1521 الذي كان محباً للزخارف الكثيرة وشغوفاً بعناصر الديكور المتكلفة.
الكنائس الصغيرة
تعد الكنائس الصغيرة غير المكتملة البناء «كابيلاس إمبيرفاتاس»، التي تزخر بالعديد من الزخارف البديعة، إحدى الأيقونات المعمارية التي تتفرد بها بلدة «باتالا» دون سائر المدن البرتغالية. وتتجمع هذه الكنائس الصغيرة حول ساحة مركزية مثمنة الشكل، ولا يوجد بها سقف، وهو ما يوضح سبب تسميتها بالكنائس الصغيرة الناقصة.
كما يعتبر قبر الملك دوراتي وزوجته ليونور من أروع التحف الفنية في هذه البلدة الساحرة؛ حيث تتشابك أيدي التماثيل الحجرية للزوجين الحبيبين على لوحة القبر إلى الأبد.
وعلى مسافة 20 كيلومتراً من بلدة «باتالا» يقع مزار «فاطيما»، وهو المكان الذي تجلت فيه السيدة مريم العذراء لثلاثة أطفال عام ،1917 ولذلك يتوافد الحجاج إلى ضريح ماريان الذي يقع بين كنيسة ضخمة على أحد جوانب الساحة وبين كنيسة صغيرة ترجع لعصر النيوباروك من القرن العشرين على الجانب الآخر من الساحة. وفي اليوم التالي يعود السياح إلى أجواء العصور الوسطى، حيث تتمثل وجهتهم السياحية هذه المرة في زيارة قلعة الفرسان الصليبيين ببلدة تومار، التي تقع على مسافة 35 كيلومتراً شرق مزار «فاطيما»، وتقع هذه القلعة ذات الأسوار المتوجة بأبراج عالية على ربوة مرتفعة.
وتضم القلعة بين جنباتها كنيسة مزدوجة فريدة من نوعها، ويحيط بها العديد من أديرة الرهبان البديعة، التي قام بإنشائها فرسان المعبد. كما تعتبر كنيسة المعبد التي يكتنفها الغموض والأسرار بمثابة الجوهرة الثمينة في تاج هذه القلعة الخلابة، وهي عبارة عن مبنى مكون من 16 ضلعاً مع مساحة مكشوفة في الوسط مثمنة الشكل.
عودة قصص العشاق
وتعود قصة العاشقين بيدرو وأغنيس إلى الظهور مرة أخرى في بلدة كويمبرا التي تضم أقدم جامعة في البرتغال. وقد عاش الحبيبان هنا أسعد سنواتهما. وتستعيد نافورة الدموع «فونتا داس لاغريماس» ذكريات هذه القصة الحزينة في إحدى الحدائق جنوب نهر مونديغو.
وتقول الأسطورة إنه يتم إمداد هذه النافورة بالمياه من دموع الحوريات الموجودة في نهر مونديغو، التي تبكي لوفاة الجميلة أغنيس. كما شهدت كاتدرائية كويمبرا ظهور أسطورة أخرى تقول إن الأمير بيدرو عندما أصبح ملكاً قام بتتويج محبوبته المتوفاة معه على عرش البرتغال، وأجبر جميع أفراد الحاشية على تقبيل يد الجثمان الباردة.
وتتوقف رحلة السياح بعض الوقت في مكان «فادو أو سنترو»، حيث تعتلي خشبة المسرح فرقة موسيقية مكونة من ثلاثة أفراد، المطرب في المنتصف واثنان من عازفي الجيتار على الجانبين، ويرتدي جميع أفراد الفرقة ملابس سوداء.
وبدأت الفرقة الموسيقية تشدو بأغنية شهيرة يدور موضوعها حول أن مدينة كويمبرا ستظل عاصمة الحب في البرتغال، فضلاً عن أن هذه المدينة كتبت بالدموع قصة الحب الشهيرة التي جمعت بين الأمير بيدرو والفاتنة أغنيس.