كستمونو.. أراضي الأسقف الحمـراء

لا يمكن لأي سائح القول إنه يعرف تركيا تماماً اذا لم يرَ مدينة كستمونو، ويطلع على كنوزها الطبيعية الخلابة التي تأسر الالباب، ومنتجعاتها الجميلة ومواقعها التاريخية، التي تنمّ عن اصالتها، وغاباتها العذراء التي بالكاد وطأتها أقدام بشر، وكذلك مطاعمها الموجودة في الهواء الطلق، حيث يجري طهي أطايب الاطعمة المحلية بصورة تقليدية. والأهم من كل ذلك شعب هذه المدينة الذي تلمس طيبته وحسن ضيافته، وكرمه في اللحظة التي تطأ فيها قدماك هذه الارض التي حباها الخالق بكل ما يسر الناظرين. ولا يمكن ان نغفل البيئة النظيفة التي يجد الباحث عنها ضالته بسهولة في هذه المدينة، حيث يستطيع السائح ان يستنشق هواءً مثاليا لكثافة الغطاء الاخضر فيها. انها فردوس يمتد عبر مساحة واسعة جدا فوق سلسلة من الجبال الشاهقة، والتي يزيد ارتفاع بعضها على 2000 متر.

وما إن يغادر السائح مطار أنقرة العاصمة التركية ويتجه شمالاً حتى تقابله سلاسل جبلية جرداء لا يعيش فيها شجر ولا بشر، ولكن بعد قطع مسافة محددة يبدأ ذلك بالتحول بصورة تدريجية نحو الاخضرار، الى أن يصل الى بدايات غابات كوستمونو الجبلية المكونة من شجر الصنوبر بصورة أساسية، إضافة الى الحور في بعض الاماكن وأنواع اخرى ايضاً.

ويبعد وسط كوستمونو نحو 200 كيلومتر عن العاصمة، وتتكون من اثنتي عشرة ضاحية او قرية، موزعة على مساحة تبلغ 13108 كيلومترات، في حين لا يزيد تعداد سكانها على 360 الف نسمة، حيث كثافة السكان في هذه المدينة قليلة جدا. ويرى محافظ المدينة أردوغان بكتاش ان ثمة حركة هجرة في تركيا من الارياف الى المدينة، ونظرا الى ان كستمونو تتكون من الغابات و السلاسل الجبلية فإنها تفتقر الى الاراضي الزراعية الخصبة، ما دفع سكانها من الشبان خصوصاً الى الهجرة على نحو كبير نحو المدن. وأضاف ان سكان كستمونو يبلغون الان نحو 360 الف نسمة، ولكن مليوناً اخرين هاجروا الى اسطنبول بسبب عدم قدرتهم على العيش في منطقتهم.

أسقف حمراء

تمتد كستمونو وقراها الى البحر الاسود، في حين أن معظمها داخلية، وتتميز بالطبيعة الخلابة الساحرة، هذا من حيث الغابات والغطاء الاخضر الطبيعي الممتد الى نهاية الافق امام الناظر، والتي يعيش فيها عدد من الحيوانات البرية، مثل الدببة والارانب والخنازير. ولكن هناك مناظر جميلة ايضا من صنع البشر، والتي تتمثل في المنازل المشيدة في جميع ضواحي كوستمونو، اذ تتميز جميعها بأسقفها القرميدية الحمراء المائلة، والتي لا تزيد على ثلاثة طوابق عادة، يكون الاول مخصصا للأعمال المنزلية بصورة عامة والثاني للأسرة والثالث للضيوف.

ويتألف مركز مدينة كستمونو من جزأين، الاول قديم والآخر حديث، في حين أن نهر كراتشومات يشق المدينة ويقسمها الى قسمين. وهي تتميز بجمالها الاخاذ بالنظر الى انها تقع على جبال عدة، الامر الذي يجعلها متفاوتة الارتفاعات بين اماكنها المختلفة. وتشمخ قلعة كستمونو، التي بنيت في القرن الثاني عشر الميلادي ابان حكم الامبراطورية البيزنطية، وهي تطل على مركز المدينة كأنها مارد جبار يراقب سكان المدينة، ويرصد كل ما يدور حوله. وتروي هذه القلعة قصة تاريخ المنطقة بكل الاحداث التي عصفت بكستمونو، والدول التي حكمتها على مر العصور. ومن المعالم المهمة في المدينة برج الساعة الذي تم تشييده في المدينة خلال المراحل الاخيرة للدولة العثمانية.

ومن أجمل المناطق الاخرى في كوستمونو قرية ازدافيا التي لا يتوقف غناها على طبيعتها الخلابة ومناخها الآسر، وانما على ثقافتها وتقاليدها الساحرة التي لايزال سكانها متمسكين بها، إذ إن العديد من نساء هذه القرية لايزلن يرتدين الألبسة التقليدية التي تتميز بألوانها الفاتحة والجميلة. وتحدث مختار القرية عن اهم مميزات القرية واهتمام سكانها بتقاليد الاجداد، لافتاً الى أن هناك نباتا معروفا في تركيا يعرف بـ«درامك»، الا ان سكان ازدافيا يبدون اهتماماً خاصاً به ويحتفظون به مؤونة في منازلهم، ويصنعون منه حساء لذيذاً يقدم فقط للضيوف الخاصين والمهمين، ويرجع الاهتمام بهذا الحساء الى الفوائد العديدة الموجودة فيه وأهميته لجسم الانسان، كما قال المختار، مؤكداً انه يعتبر من المقويات.

الى جانب ازدافيا منطقة تدعى «باي باشا»، حيث يوجد وادي فالا كانيون الذي يعتبر بحق من الاماكن المميزة ليس في تركيا وإنما في العالم، نظرا الى عمقه السحيق والمناظر الطبيعية الخلابة المحيطة به. وقال القبطان السابق اوميت كولاك اوغلو، الذي أصبح خبيرا في المنطقة ومتسلقاً للجبال، إن هذا الوادي لم يتمكن من عبوره اكثر من 50 شخصا منذ الأزل، نظراً الى وعورته الشديدة وصعوبة التنقل فيه.

إفطار القصبة

من القرى المهمة ايضاً القصبة، التي أهم ما يميزها مسجد أثري عمره نحو 650 عاماً واسمه مسجد محمود بيه، ويتميز بطرازه المعماري الجميل، اذ معظمه مبني من الخشب. وهناك أيضا مجمع ياغوبا الذي بناه السلطان سليمان القانوني عام ،1542 الذي يتألف من مسجد ومكتبة عمومية ووقف إسلامي، يستفيد منه الكثير من السكان، سواء من حيث التعليم او البحث العلمي في المكتبة. ولكن ما يثير الدهشة ان هذا المجمع يوجد فيه مقهى، كل من يعمل به من المعاقين، بهدف الاعتماد على انفسهم وعدم الاضطرار الى سؤال الناس، الامر الذي يجعل هذا المجتمع متقدماً على الكثير من المجتمعات التي تعتبر المعاقين عالة على المجتمع، ولا تهتم بتأمين اي فرص عمل تحفظهم من ذل السؤال والحاجة.

وبالقرب من القصبة مزرعة كبيرة تدعى «مزرعة إيزابيل» تزيد مساحتها على 850 دونماً من الاشجار المتنوعة كالصنوبر والحور، في حين تكثر الاشجار المثمرة التي يستفيد منها اصحاب المزرعة التي تملكها عجوز تركية مع ولديها. وتقول هذه العجوز ان المزرعة منحة من اخر السلاطين العثمانيين مكافأة لعائلتها على تفانيها في الحرب، وتجنيد الكثير من سكان المنطقة لمحاربة المحتلين.

وكانت صحيفة «حريات» التركية الواسعة الانتشار قد نشرت تحقيقاً عن هذه المزرعة قالت فيه ان الزائر لها يمكن ان يحصل على افضل وجبة افطار في تركيا، اذا لم نقل في العالم قاطبة. ومن السهولة بمكان التحقق من ذلك، اذ تكفي زيارة المزرعة وتناول هذا الافطار الشهي، وسماع مالكة المزرعة وهي تتحدث عن انتاج مزرعتها، بدءاً من المربيات العديدة والمتنوعة جدا وليس انتهاء بالحليب والخبز واللبن وكل ما يمكن ان يخطر على البال، وتضعه على مائدة الافطار.

الفردوس المفقود

في حقيقة الامر فان كستمونو يمكن تشبيهها بالفردوس المفقود الذي ينتظر من يستكشفه. وتبذل محافظة المدينة جهوداً كبيرة لجذب السياح الى هذه المنطقة لاكتشافها. ولهذا، ثمة اهتمام كبير بالبنية التحية لتنشيط الحركة السياحية، حيث سينتهي بناء مطار خلال شهرين، اضافة الى تشييد العديد من الفنادق والمنتجعات، كما تشجع السلطات المستثمرين على القدوم الى المنطقة عن طريق منحهم الميزات التي يتمتع بها الاتراك انفسهم. ويقول المحافظ إنه «خلال التنمية من اجل السياحة سيكون في الحسبان عدم الاساءة لبيئة المدينة وطبيعتها الخلابة التي لاتزال عذراء في مجملها، والتي تحوي بيئة مثالية لمحبي السياحة الطبيعية، حيث قال القبطان اوغلو إن «سكان هذه المنطقة يبلغون الثمانين وهم يشعرون بأنهم لايزالون في سن المراهقة».

الأكثر مشاركة