«صهيل الطين» الإماراتية تنفرد بمسرح «كامل العدد»
تابع جمهور غفير، من جاليات ووفود عربية متعددة، عروض مهرجان المسرح العربي في دورته الخامسة، المقامة في العاصمة القطرية الدوحة، مسرحية «صهيل الطين» الإماراتية التي يخرجها محمد العامري، ويجسد الدورين الرئيسين فيها الفنان أحمد الجسمي، والممثلة الكويتية الشابة حنان مهدي، ويعود نصها للفنان إسماعيل عبدالله، فيما أثارت الندوة التطبيقية جدلاً نقدياً ثرياً حول المحتوى الدرامي للعمل ودلالاته والرؤية الإخراجية وأداء الممثلين خصوصاً، فضلاً عن التطور الذي يشهده المسرح الإماراتي في ضوء مشاركاته الخارجية.
واستضاف العرض مسرح قطر الوطني الذي سبق أن استضاف ـ قبل عامين في التوقيت ذاته ـ مسرحية «السلوقي»، التي شهدت تعاوناً أيضاً بين الثلاثي محمد العامري وأحمد الجسمي وإسماعيل عبدالله، وحصدت حينها الكثير من جوائز مهرجان الخليج المسرحي.
وأكسبت «صهيل الطين» مسرح استضافة العروض وصف «كامل العدد» بعد أربعة أيام من عرض المسرحية القطرية «المشهد الأخير» في الليلة الافتتاحية، ليعقبها تراجع في أعداد الحضور، حيث تابع «صهيل الطين» جمهور غفير، اختلط بوفود الفرق المشاركة والمستضافة، رغم أن معظم الفنانين الخليجيين قد تابعوا العرض الذي فاز بجائزة أيام الشارقة المسرحية، خلال مشاركته في الدورة الأخيرة من مهرجان المسرح الخليجي، التي أقيمت قبل نحو شهرين في مدينة صلالة العمانية.
مفردات «الربيع العربي»
قدم العرض الإماراتي رؤية فكرية وفلسفية حول الصراع الإنساني ضد محاولات وأد طموحاته، وتقييد تطلعاته، والزج به في أتون إرادة أخرى متسلطة، على اختلاف تلك الدوائر، حيث ينفتح النص على دلالات وإشارات واسعة، لا تقف عند حدود العلاقة بين الابنة والأب في ضوء سلطة الأخير، كما هو في سياق الحدث الدرامي في قراءته المباشرة، بل تذهب بعيداً لتستوعب كل علاقة سلطوية، حتى تطال العلاقة بين الحاكم الديكتاتور، وبين شعبه، وهو ما يؤكده الاستعانة بكلمة أصبحت من أدبيات ما اصطلح على تسميته «ثورات الربيع العربي»، وهي «ارحل»، التي تمثل أقوى سلاح قولي يملكه المتسلَّط عليه، ضد المتسلِّط، وهو كما هو في استيحاء واقع الأحداث يتحول مع عدم الاستجابة له إلى فعل عنيف.
اللافت أن كلمة «ارحل» تمت استعارتها من واقع «الربيع العربي»، إلى دراما عدد من أعمال «المسرح العربي»، بما فيها المسرحيتان اللتان عُرضتا أول من أمس، وهما «صهيل الطين»، و«تمارين في التسامح» المغربية.
وعبر مسرح مزدحم بالوجوه المنحوتة والتماثيل والأدوات التقليدية المستخدمة في فن النحت، تنفتح «صهيل الطين» على رؤية مشهدية ثرية، يسعى عبرها العامري كعادته إلى الاشتغال على عناصر السينوغرافيا، بحيث تبدو كأنها تمثل الورقة الرابحة له دائماً في شتى العروض المسرحية، في حين تتدلى سلاسل حديدية من الأعلى، رغم وجود سلم في مؤخرة الخشبة التي تقبع في جانب منها غرفة النيران، التي يُستعان بها في المرحلة الخيرة من تشكيل التماثيل، وفي الطرف الآخر يبرز تكوين يشبه في ارتفاعه عروش الملوك، وتتلوه مباشرة ستارة تحجب ما خلفها.
في ظل هذه المعطيات والمفردات الكثيرة، لا مجال أن يضل سبيله سياق الحدث الدرامي، حيث يسعى المخرج إلى إثارة فضول المشاهد منذ الوهلة الأولى، ليظل متتبعاً لتصاعده عبر صراع دائم بين أب يؤدي دوره الفنان أحمد الجسمي، يسخر ابنته التي لم تر مخلوقاً غيره منذ ولادتها حتى أصبحت شابة يافعة، في صياغة ما سماه «الحلم الأكبر»، وهو صياغة تمثال عظيم يشبهه، يستأنف ويرث قدرته على السيطرة مثله على سائر التماثيل.
الابنة التي تجسد دورها حنان المهدي، تصوغ حلم أبيها، في الوقت ذاته الذي تقاومه فيه، وتعلن عدم إيمانها سوى بحلمها هي «ولادة تمثال من ماء وطين»، ليصر الأب على أن حلمها هذا «سيوأد ولن يولد»، مؤكداً أن «لا حلم إلا حلمي.. ولادة تمثال من نار وطين»، كأن الكاتب والمخرج هنا يستعينان بفكرة الصراع الفلسفي بين النار والماء، لصياغة دراما لا ترتبط فقط بالأحداث العربية المستجدة سياسياً، بل تذهب إلى هو أبعد من ذلك في صراع الإنسان الدائم وتوقه إلى كسر كل القيود التي تعيق إرادته على مختلف المستويات.
«لا حلم إلا حلمي»
في سياقين مختلفين، تصوغ الابنة التي لا تغفر لأبيها أنه قتل أمها حينما رفضت أن تكون مشاركة في صياغة حلمه، ونجحت أثناء محاولته قتلها في إصابة إحدى يديه بالشلل، حلم أبيها من جهة، وتصوغ حلمها هي بشكل متخف خلف الستار في سياق آخر، وفي المشهد تماثيل بشرية يجسد أدوارها جوقة من الممثلين يتحركون تحركات مريبة ويتوجسون كلما اقتربت من صياغة حلمها، لأنهم من صنع الأب الطاغي.
حركة الجوقة تم توظيفها توظيفاً دقيقاً في سياق الحدث الدرامي، ولم يدع لنا المخرج مجالا للشك، في أنها بمثابة عناصر في معسكر الأب، وبدت دائماً مستعدة لأن تتدنى في حركاتها وإيماءاتها لتلتصق بالتراب زاحفة ومموهة أجسادها ومشكلة إياه حسب ما اقتضت طبيعة الموقف، وهي الحركات والتبدلات التي ساندتها مؤثرات صوتية لم تخطئ انسجامها مع الأجواء النفسية المتبدلة على الخشبة.
«لا حلم إلا حلمي»، عبارة يسعى الجسمي، في إطار الدور الذي يلعبه، إلى توظيف ايحاءات الجبروت والسلط، في المقابل يكتسب صوت الممثلة حنان مهدي في دورها صفة العناد والإصرار، وما بين تأكيدها أن حلمها «سيولد»، وصرامة الرد اللفظي الفوري من الأب بأنه «سيوأد»، تنتصر الأحداث الدرامية في محطة منها لمطمحها، ويكتمل مشروع إنشائها تمثالاً من ماء وطين، تكسبه حياة بماء المطر الذي جمعته، لتمثل لحظة اكتشاف أمرها من قبل الأب المتسلط، ذروة تصاعد في الحدث تنتهي بدخوله فرن النيران، الذي طالما كان ينتعش بشم رائحة حرقها للطين، وهو مشهد لا ينسى المخرج فيه الاستفادة من توظيف الموسيقى وحركات الجوقة.
واستضاف مسرح الدراما بمنطقة كتارا المسرحية المغربية «تمارين في التسامح» من نص وأشعار عبداللطيف اللعبي وإخراج محمود الشاهدي، وعلى عكس «صهيل الطين» جاءت المسرحية مقتصدة اقتصاداً شديداً في السينوغرافيا، لكنها اعتمدت على أداء قوي ومتقن للممثلين الذين استطاعوا التلون والتبدل مع لوحات منفصلة، لكنها تتواصل للكشف عن رؤية المخرج، ومحتوى النص. التمارين التي عمد إليها الشاهدي من أجل الدعاية للتسامح على حد العنوان والمحتوى الساخرين للعمل، تضمنت أيضاً لوحات تنفر من غياب التسامح، فيما سعت معظم اللوحات إلى رؤية مشهدية توضح آثار اللاتسامح، والعلاقة مع الآخر، والمرأة والسجن والنظام السياسي، والاختلاف الثقافي والديني، موظفاً الموسيقى والغناء والرقص والشعر بشكل مكثف لخدمة المحتوى الدرامي.
وفي حين أن البداية كانت مع مقاطع من أشهر خطابات الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، إلا أن مخرج العمل نسج ما يشبه بانوراما مشهدية ذهبت في فضاءات مختلفة، سعى من خلالها إلى التغلب على الانفصال المحتمل للجمهور عن الخشبة، بسبب صعوبة اللهجة المغربية المحلية المستخدمة، لكنه لم يفلح في ذلك معظم المواقف.
طقوس إماراتية
طغت الطقوس الإماراتية على أجواء مسرح قطر الوطني، ليلة عرض مسرحية «صهيل الطين»، وتطوع الفنان سعيد سالم بصناعة «البثيثة» المحلية، وإعداد دلة القهوة، وقام بتوزيعها على الحضور الذين قابلوا ذلك بترحيب شديد، في ظل برودة الطقس الاستثنائية في الدوحة حالياً. بعض المسرحيين رحب، مازحاً، باستضافة العرض الإماراتي مراراً خارج خشبة عروض المهرجان، مضيفاً «عجبتني البثيثة»، وفي حال استحسنت العرض فهذه فضيلة أخرى، وإن لم يرق لي، فسيغفر مذاق البثيثة المحلية ما يخفيه لنا المخرج بالداخل على الخشبة، قبل أن يؤكد أنه في الحقيقة يتوقع عرضاً لا يقل بحال من الأحوال عن الجودة الفنية لمسرحية «السلوقي»، التي شاركت في آخر مهرجان للمسرح الخليجي استضافته الدوحة.
هجوم على بطلة «صهيل»
تعرضت بطلة مسرحية «صهيل الطين» الكويتية حنان مهدي ـ التي تشارك الجسمي الدورين الرئيسين في العمل ـ لهجوم نقدي في الندوة التطبيقية، لدرجة أن مسرحياً كويتياً تدخل واعتبر الهجوم لا يقوم على أسس فنية، بقدر ما أن البعض يرحب بحضور جنسيات غير خليجية في المسرح الخليجي، أكثر من ترحيبه بالممثلات الخليجيات. مهدي التي تمتلك بالفعل طاقة فنية أكبر مما ظهرت عليه في الدوحة، كانت قوية في التعامل مع ردات الفعل، وكان من الصعب لمس أي أثر لإحباط عليها، وهو ما أشارت إليه لـ«الإمارات اليوم»، التي تابعت بالفعل مهدي في أداء أفضل أثناء عرض المسرحية في «العويس» قبل السفر إلى الدوحة بـ48 ساعة : «أتقبل كل الآراء النقدية، وأسعى أن استفيد منها، وليس لديّ حساسية باتجاه حصر أخطائي، لكن أتوسم أن يكون النقد صحياً، دونما دوافع شخصية، كي تعم الفائدة، سواء بالنسبة لي، أو لزميلاتي وزملائي في مختلف الأعمال».