«يا ما كان».. لبنان بنكهة «ربيع» تــونس
حفل اليوم الختامي لعروض مهرجان المسرح العربي في دورته الخامسة في الدوحة، بمفاجآت عـدة على المستوى الفني، وشهد ترقباً لتجربة عرض مسرحية جميع طاقمها لبناني، سواء بالنسبة للممثلين أو المؤلفة يارا أبوحيدر، أو حتى الفنيين، في حين أن مخرجها تونسي، وهي مسرحية «يا ما كان»، وأصرّ القائمون عليها باعتبارها مسرحية عربية تمثل البلدين معاً، فيما كان ختام العروض مـع مسرحيـة «امرأة من ورق» الجزائريـة، التي اتكأت على نص روائي تم تطويـره مـن أجل العرض المسرحي.
اللافت أن النص اللبناني المكتوب بالأساس قبل بدء شرارة ما اصطلح على نعته بـ«الربيع العربي»، تم استدراجه بشكل ملموس إلى واقع ما بعد تلك «الثورات»، لاسيما في ما يتعلق بحالة التوجس المستمرة لدى الآمنين في منازلهم، وتوجسهم الأمني، وحضر لبنان بشكل واضح على الخشبة، من خلال بانوراما مشهدية كان هناك اعتناء واضح فيها بالملابس والإكسسوارات ومن ثم اللون، وحضرت النكهة التونسية فنياً عبر المخرج، وموضوعياً من خلال «توابع» الربيع العربي، وإن تمت وفق السياق الدرامي في منزل لبناني.
عنصر «الثورة» انتقل من الخشبة التونسية التي قدمت في عامين متتاليين عملين يرصدان واقعها عبر منبر المسرح العربي، انتقل إلى الخشبة اللبنانية عبر المخرج التونسي وحيد العجمي ليقدما مسرحية تدور خيوطها داخل بيت لبناني تتحكم الجدة، التي تؤدي دورها الفنانة حنان الحاج علي، في عوالم أفراده، لكن الجميع يعاني هاجس وجود أسرة أخرى تهددهم بالاستيلاء على المنزل وطردهم منه.
ورغم أننا لا نلمس من حيث الديكور معطيات المنزل، إلا أن المخرج أجاد توظيف قطعاً خشبية مستطيلة، لكي تكون كل شيء تقريباً من حيث موجوداته، في حين كان الحوار ثرياً إلى الدرجة التي كان حضوره فيها أكبر من أي عنصر آخر من عناصر العمل، ونجح العجمي في استدراج المشاهد إلى حكاياته السريعة والمتتالية التي تحدث داخل جدران المنزل.
رهان
بطلة منزعجة أبدت بطلة عرض «يا ما كان» الفنانة اللبنانية حنان حاج علي انزعاجها من عرض العمل على خشبة مسرح قطر الوطني، مضيفة أن «جانباً من إشكاليات العمل مرتبط بإمكانات المسرح نفسه التي لم تتح، على حد قولها، للممثلين التعبير بشكل مريح عن طاقاتهم وإمكاناتهم الفنية». وقالت حاج علي لـ«الإمارات اليوم»: «طالبنا أن تتم استضافة بعض الأعمال في الأوبرا، لكن تم تجاهل طلبنا، وفكرنا في استخدام ميكروفونات كي لا يفقد المشاهدون في الصفوف الأخيرة التواصل مع العرض، لكن لأسباب فنية استبعدنا هذا الخيار». يذكر أن بعض المشاهدين لم يتمكنوا بالفعل من التواصل الجيد مع الخشبة بسبب عدم وضوح الصوت.
وقت للقراءة ما بين العروض، أو في فترة الاستعداد للندوات، ثمة وقت للقراءة، رغم جدول عروض المهرجان.. كان ذلك حال الفنانين نور الشريف وصالح كرامة، إذ يندر ألا تصادف أحدهما، بخلاف العرض، أو متابعة ندوة ما، إلا في حالة قراءة. الشريف الذي عبّر عن استمتاعه بالعروض، أشار إلى أن فعل القراءة أصبح بالنسبة له متعة وليس مجرد اكتساب معرفي، قبل أن يقدم نصيحة بقراءة مجموعة من أحدث الكتب التي قرأها أخيراً، والمدهش أن جميعها لم تكن كتب ذات علاقة بالمسرح أو الدراما عموماً بشتى أنواعها. كرامة من جانبه، أشار إلى أن مثل هذه التجمعات كما تكون فرصة لمشاهدة عروض متنوعة والالتقاء مع أصدقاء من مختلف الدول العربية، لا تعدم أن تقدم فرصة أيضاً ولو ضئيلة حسب ما يقتضيه الوقت للقراءة.
|
تركيز المخرج في خطابه البصري على مجموعة من الإشارات والعلامات الدالة اللغوية وغيرها، متمثلة بعناصر رئيسة من السينوغرافيا، ومنها القطع والصناديق المتحولة والإكسسوارات والملابس، إضافة الى الألوان، اختزل دورها لإثراء الخطاب الدرامي الذي كان بالفعل أحد أهم رهانات العمل، وهو رهان أسهم في مزيد مـن المتعـة البصرية.
وتنقل المخرج على صعيد المحتوى الدرامي في حكاياته ولوحاته بشكل سلس على النحو الذي يتسق مع ما يتوقعه المشاهد بناء على العنوان «يا ما كان» المحيل إلى عالم من الأقاصيص الدالة، إذ جاء العرض مفعماً باستثمار العلاقة بين الأضداد والمتناقضات، إذ نجد الشقيق الذي يحمل بندقية لم يتم تجريبها مطلقاً، ومكلفاً بحراسة المنزل يرتدي بزة رسم على ظهرها صورة زهرة، في إشارة إلى موجة العنف التي تجتاح بعض البلدان العربية، ومعظمها عنف داخلي، وهو ما يرتبط بدلالة مشهد دخوله في نزاع مع شقيقه في مشهد عراك دال، وإن كان عابراً.
إحالات
انشغل المؤلف كثيراً في «يا ما كان» باستثمار الإحالات والإسقاطات على الواقع السياسي العربي بتلوناته بشكل واضح، وهي رؤية أسهم في إنجازها على خشبة المسرح الأداء الفني والجسدي للممثلين، خصوصاً حنان الحاج علي، فلم يكن عبئاً درامياً أن يحولنا المخرج من أجواء الشارع المصري عبر استثماره لقطات يؤديها الممثلون من ميراث السينما المصرية، وأخرى مغناة تعيد لنا دفء هذ الشارع، إلى قضية فلسطين إلى حكايات تراثية ذات مغزى منها حكاية العنزة والذئب، وغيرها.
يبقى أن نشير إلى أن الإضاءة كانت بمثابة عبئ ثقيل على العرض، ولم يتمكن المخرج من وظيفها لخدمة الفعل الدرامي على الخشبة، أو جماليات العرض، وهو ما يقوي فكرة أن «يا ما كان» اعتمد بشكل أكبر على نص مسرحي جيد، وأداء تمثيلي راق، تمكن من حماية العرض من مطبات كثيرة كان من الممكن ان يقع فيها، لاسيما مع الاتكاء على فكرة اللوحات التي حملت أيضاً نهايات متفاوتة، على النحو الذي كان من الممكن أن يربك الخشبة، ومن ثم المشاهد.
استلهام روائي
بينما جاء العرض الجزائري «امرأة من ورق» من إخراج صونيا، واقتباس مراد سنوسي، بمثابة محاولة لاستلهام محتوى روائي بالأساس تمت معالجته من قبل الكاتب سنوسي، ليتتبع رؤية توثق لفترة حرب العشرية السوداء بالجزائر، التي عاشها الجزائريون في فترة التسعينات، وعرفت أيامًا عصيبة بدخول عهد الإرهاب، ولكن من خلال هواجس امرأة غيورة على زوجها قامت بأداء دورها الممثلة لعريني ليديا، فيما مثلت المرأة الأخرى التي تغار منها الممثلة هواري رجاء.
وجاءت السينوغرافيا جاذبة للجمهور بشكل لافت في بداية العرض، خصـوصاً حينما ساد التساؤل قبل العرض الذي استضافه مسرح الدراما بمنطقة كتارا، اين سيتحرك الممثلون؟ بسبب تهميش مساحة الخشبة عبر ستائر مثبتة بعناية، فيما كانت المفاجأة أن تلك الستائر تحولت لشاشات عرض متداخلة، تم توظيف عنصر الديكور المستتر، والإضاءات المتبدلة، سواء من حيث درجة الخفوت أو السطوع، أو الألوان لجذب المشاهد للعرض من اللحظة الأولى لبدء المسرحية. واجتهدت صونيا كثيراً في لي مفاصل العمل الروائي، لكنها وقعت في فخاخ السردية، فوجدنا الممثلتين الوحيدتين في أكثر من مناسبة تدير كل منهما ظهرها للأخرى وتتجه للجمهور في مشاهد أكدت أن العمل لم ينجح في التخلص من أسر روائيته.
الإشكالية الروائية طاردت العمل في مفاصل شتى من مرحلة تطور الفعل الدرامي، ووجدنا الشخصيتين يصران على ذكر تواريخ محددة بشكل رتيب، وكأنهما يصران على الغرض التوثيقي للرواية، لا الفعل المسرحي على الخشبة.
فريق متكامل
من جهتها، كشفت مخرجة العرض صونيا، أنها قبل شروعها في خوض تجربة إخراج هذا العمل كان من المفترض أن تكون بطلة العرض، إلا أن بعدها عن الساحة التمثيلية لفترة قاربت السنوات الأربع، دفعها إلى خوض هذه الرؤية والتجربة الإخراجية الجديدة.
وأشارت إلى أنها حرصت على الاستعانة بفريق عمل متكامل من ممثلين ومؤلفي نصوص وموسيقى وسينوغرافيا وغيرها، وأنها وضعت الإطار العام للعمل ورؤيتها الإخراجية بشكل عام وتركت مساحة كبيرة لفريق عملها في الاجتهاد وإظهار ما لديه من طاقات كامنة بكل حرية.
وبررت مخرجة «امرأة من ورق» معالجتها لمرحلة زمنية تجاوزتها بلادها منذ سنوات طويلة قائلة: «لا يمكن للمؤلف أو المخرج التعرّض لأي من الفترات التي تعيشها البلاد إلا بعد مرور فترة كافية عليها واستيعابها من جانب الفنانين الذين يوكل إليهم فيما بعد تجسيد هذه المعايشة التي عايشوها، وأن ذلك لا يمكن أن يحدث إلا بعد مرور فترة كافية يستطيع من خلالها الفنان استيعاب كل المجريات ومن ثم التعرّض لكتابتها وإخراجها بكل ارتياح وموضوعية».