«بويا بويا».. أدوات تقتفي أثر الناس
يأخذنا الفنان السوري عمار البيك في معرضه الذي افتتح أخيراً تحت عنوان «بويا بويا بويا» إلى عالم «البويجي»، الذي يمتهن صباغة الأحذية، ليس من خلال صور شخصية تظهر ملامح حياته المهنية، وإنما من خلال أدواته التي يستخدمها التي تحمل آثار الزمن والناس الذين مروا من عنده. قدم البيك في المعرض الذي يستمر حتى 22 من فبراير في أيام غاليري، كل أدوات صباغ الاحذية، بدءاً من الاسفنجة ووصولاً إلى علبة الصباغ والبويا التي توضع على الأحذية، والأخشاب والقطع البلاستيكية والأقمشة التي تمسح بها الأحذية، ليقارب هذه المهنة من وجهة نظر إنسانية ونفسية وليس توثيقية.
لم يستخدم البيك الكاميرا في هذا المعرض إلا في جزء بسيط منه، إذ قدم في صناديق صغيرة معلقة بطريقة متوازية صوراً للرجل العجوز الذي يمارس مهنته على رصيف من أرصفة مدينة بيروت. يستخدم الرجل السبعيني أدواته ويمسح الاحذية ويجلس مترقباً الناس. كم يحمل هذا الإنسان من حكايات يلملمها من على أرصفة الطرقات التي يجلس عليها. يترقب ويلمع الأحذية، وينجح ربما في رسم ابتسامة لامعة أيضاً على وجوه من يقصدونه، تماما كالابتسامة المرسومة على وجهه. وعلى الرغم من بساطة هذه المهنة، لكن تبدو أنها تحمّل المرء الكثير من التعب وتمنحه الكثير من السعادة في الوقت عينه، فقد رصد البيك ابتسامات للرجل العجوز تحكي الكثير عن الأمل والمعاناة في آن.
تفاصيل
أدوات المهنة عرض الفنان السوري عمار البيك في صندوق زجاجي مقفل مجموعة الأدوات التي استخدمها في معرضه، وشملت هذه الأدوات الكرسي الذي يجلس عليه صباغ الاحذية، والقاعدة الخاصة بالقدم، والبويا والاسفنجات، وكذلك القطع الخشبية التي يستخدمها لمسح البويا من العلبة، إضافة الى قطع القماش التي يستخدمها في مسح البويا. وقد حصل البيك على هذه الادوات من الرجل الذي صوره في المعرض من خلال مبادلة بعض الأغراض معه.
|
المعرض الذي كانت ترافقه الأغنية المعروفة «بويا بويا بويا»، التي غناها الفنان نصري شمس الدين في إحدى مسرحياته، قدم أدوات صباغة الأحذية عبر تقنية «سكانوغرافي آرت»، أي المسح الضوئي، وهي تقنية تصويرية، لكن ليس بواسطة الكاميرا، وقد أتاحت للبيك أن يقدم أصغر التفاصيل التي تحملها أدوات البويجي. وتستطيع بعض الأعمال التي تحمل هذه التفاصيل الدقيقة أن توهم الناس بأنها عمل كولاجي، خصوصاً العمل الذي صورت فيه قطعة القماش، التي بدت كأنها قطعة قماش ملتصقة باللوحة. أما الاسفنجة والفرشاة والقطع الخشبية والبلاستيكية، فقد بدت كأنها أعمال فنية لا تشبه الأدوات الواقعية. البيك يلفت الانتباه في هذا المعرض التجريبي، ومن خلال التقنية التي يستخدمها، الى أهمية التفاصيل البسيطة، التي لا يمكن ان ترى إلا من خلال الصور المكبرة. وقد أظهرت هذه التفاصيل الحساسية العالية عند البيك في تعاطيه مع الشيء والأثر، فالتراكيب والأغراض التي يستخدمها ليست معزولة عن الذكريات التي يكتنزها المرء بها، كما أنه يرصد من خلالها الواقع المرير لمهنة بسيطة الأدوات، أصحابها يعانون الفقر وكذلك القمع الانساني.
أما الجانب السياسي فلم يختزله البيك من معرضه، فقد أعلن موقفه الصريح من النظام السوري، والثورة السورية، من خلال عمل واحد تدخل فيه، وهو الصورة الخاصة بعلبة البويا، وقد ضمن العمل الدلالات السياسية من خلال التاريخ الذي وضعه لتأسيس الشركة، والذي هو تاريخ تسلم الرئيس السوري السابق حافظ الاسد الحكم في سورية.
أسئلة
قال البيك عن معرضه لـ«الإمارات اليوم»، «لم يكن الهدف من المعرض عن (البويجي) التوثيق، وأنا جمالي ونفسي بحت، فالإسفنجات وبقايا الأقمشة، وفراشي التلميع، وعلب البويا المنتهية من موادها، كل هذه الأشياء البسيطة والصغيرة هي من أدوات المهنة». وأضاف «المعرض كان يهتم بفكرة تقصي الأثر اللوني الذي يتراكم مع مرور الزمن على هذه الأشياء، الى جانب الملمس والتفاعل اليومي الاجتماعي الذي يحصل بين صاحب الحذاء والبويجي». واعتبر البيك أن الأسئلة التي يمكن أن تطرح من وراء هذا العمل كثيرة، والدلالات غير منتهية، فالأسئلة بمختلف أبعادها الإنسانية والجمالية والنفسية هي غاية من وراء هذه التجربة السهلة والممتنعة في آن.
أما في ما يتعلق بالعمل السياسي الوحيد في المعرض، فقال البيك إنه «عمل يحمل موقفاً إنسانياً داعماً ومُعلناً تجاه الثورة السورية، وحتى ذاك الاسم «الأسـد» الذي كان يثير الخوف والذعر على مدى 40 عاماً لشريحة كبيرة جداً من الشعب السوري، بدلالته على القوة والسطوة، لم يعد ينفع ليكون مصدراً لتقديس ديكتاتور أب وابن قتلا الآلاف من أفراد الشعب منذ السبعينات من القرن الماضي». وأضاف «كنا نرى هذا الاسم كمُسمى للشوارع والمستشفيات والمدارس والمكتبات والمتاحف التي بناها السوريون، واليوم وصلنا إلى الوقت الذي من الممكن أن نراه على علبة لتلميع الأحذية، بمعنى آخر هناك نزعة شخصية عندي لكسر حاجز الخوف المزروع داخلي كسـوري واستخدام الاســم رمزاً لتكسير تلك الحالة التي يخترعها الديكتاتور على مر سنين لإخافة الشعب». واعتبر الفنان السوري أن هذا العمل كان مفتاحاً أساسياً في الولوج إلى معرضه، فالبويجي الذي وصل إلى السبعين من العمر موجود في المعرض من خلال مجموعة صور فوتوغرافية تعطي مكانة لجهد هذا الإنسان، وكل من يتشابه معه في هذه المهنة التي لا تأخذ في بلداننا أدنى حقوق الاحترام الإنساني، فهذه المهنة ليست للفقراء وحسب، وانما للمقموعين إنسانياً واجتماعياً.
وفي ما يتعلق بالتقنية التي استخدمها البيك، لفت إلى وجود تقنيات مختلفة ومتنوعة لإنجاز أي عمل فني، وبالنسبة له، هو دائم البحث عن تقنيات جديدة ومثيرة لإنجاز العمل، فالتقنيات الجديدة تسهل الوصول الى حالات إبداعية. وأضاف «أنا من الأشخاص المعنيين جداً بالتطور التكنولوجي الرقمي، إضافة إلى اهتمامي الشديد باستخدام المواد التالفة والمهملة وإعادة استخدامها وتسخيرها لمصلحة العمل الفني وتطويره». وقد اعتبر التصوير فناً متطوراً ومرتبطاً بالتطور التكنولوجي وبالنتيجة المصور الفنان هو بصر وبصيرة، والأدوات من كاميرا وريشة وما إلى ذلك هي وسائل تعبير تساعد لإنجاز العمل الإبداعي.