«رئة أوروبا» تتحدى الحروب والأزمات
«منسك».. مدينة الثلج والتسامح والــــملابس البيضاء
تتغنى عاصمة جمهورية بيلاروسيا «مِنسك»، أو ما يعرف بـ«روسيا البيضاء»، بتخليد ذكرى جنودها المشاركين في الحربين العالميتين، لاسيما الثانية منها التي ألحقت ضرراً كبيراً في البلاد تمثل في خسارة ثلث السكان وأكثر من نصف الموارد الاقتصادية التي استطاعت خلال فترة وجيزة تعويضها وبجدارة. تحتفي «منسك» بجنودها وضحاياها الذين دفعوا حياتهم ثمناً للحرية، فتجدهم يتمثلون في شكل نصب وتماثيل في الشوارع، والمتاحف، والأنفاق، فضلاً عن خنادق حفرت خصيصاً لتجسيد حياتهم بآلامها وأحزانها كما كانت.
في سطور تعد «مِنسك» عاصمة جمهورية «بيلاروسيا» المعروفة بـ«روسيا البيضاء» وأكبر مناطقها، تقع في منتصفها بمساحة 4.200 كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها مليوناً ونصف المليون، وتحتوي على 20 مدينة، و23 بلدة، و5250 قرية. وهي تعتبر أعلى مستوى في الإنشاءات السكانية في الجمهورية، فهي تخطط منذ عام 2011 ولغاية 2015 لبناء 7.275 مليون متر مربع من البيوت. تأسست «مِنسك» في 15 يناير في عام 1983، واستمرت التعديلات على حدودها 30 عاماً. وصف «مِنسك» أو نعتها بـ«قلب بيلاروسيا» يأتي نظراً من الناحية الجغرافية، حيث إنها تقع في منتصف «بيلاروسيا»، كما أن شكلها يشبه القلب. انضمت «بيلاروسيا» التي تعد بمثابة تقاطع طريق بين الشرق والغرب إلى الأمم المتحدة في عام 1945، وتعتبر رئة أوروبا، حيث إنها الدولة الوحيدة في قارة أوروبا التي تحتوي على1.7 مليون هكتار طبيعي لم يمسسه بشر. تبلغ الغابات نسبة 34٪ من مساحة البلاد، ما يعتبر ذا أهمية كبيرة للنظام البيئي في شرق ووسط أوروبا. وتضم نحو 10 آلاف بحيرة، و120 نهراً بأحجام مختلفة. |
نجحت «مِنسك» في تعويض خساراتها الحربية وتخطي آثارها وعقباتها، وتقف مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى «1841» شاهداً على ذلك، فعلى الرغم من وقوعها تحت الاحتلال في أيام قليلة وقتل فيها مئات الآلاف من البشر وحرقت قراها ودمرت مدنها، إلا أنها استطاعت مع انتهاء الحرب استعادة قواها الصناعية بعد خمس سنوات فقط وإعادة بناء القرى والعمل على ظهور مدن جديدة.
وخلال فترة قصيرة، في الجزء الثاني من القرن الـ20، تحولت أرض «مِنسك» إلى منطقة ذات قدرة صناعية وزراعية هائلة، ونجحت في إرساء بنية تحتية تسهم في خدمة الاتحاد السوفييتي، وبعد انحلاله في عام 1991، لم يقف مواطنو «مِنسك» مكتوفي الأيدي أمام التداعيات التي أثرت في جميع نواحي الاقتصاد في الجمهورية، فحرصوا على بذل جهود مضاعفة تخطت هذه المرحلة.
مجالات عدة
أصل التسمية تعد «روسيا البيضاء» أو «بيلاروسيا» دولة داخلية في أوروبا الشرقية، تحدها الدول التالية باتجاه عقارب الساعة: «روسيا» إلى الشمال، «أوكرانيا» إلى الجنوب، «بولندا» إلى الغرب، «ليتوانيا»، و«لاتفيا»، إلى الشمال الغربي، عاصمتها «مٍنسك»، ومن مدنها الرئيسة الأخرى «بريست»، «غرودنو»، «غوميل»،«موغيلوف»، و«فيتيبسك». استمدت تسمية جمهورية «بيلاروسيا» من المصطلح «روسيا البيضاء»، وتوجد فرضيات عدة حول أصل التسمية، حيث يذكر أن الاسم يصف الاسم المنطقة المغطاة بالثلوج في شرق أوروبا والمسكونة من قبل الشعب السلافي كمنطقة جميلة وحرة كنقيض للمنطقة الليتوانية «روثينيا السوداء». قد يكون للملابس البيضاء التي كان السلافيون يرتدونها دور في التسمية وفقًا لنظرية أخرى. من الافتراضات الأخرى أن التسمية تعود للأراضي الجنوبية «بولاكاك»، و«فيتسبك» و«موغيلوف»، والتي لم يتمكن التتار من غزوها. حيث إنه قبل عام 1277، سميت الأرض التي لم يستطع التتار غزوها بـ«روسيا البيضاء». ظهرت التسمية أولاً في الأدب الألماني واللاتيني في العصور الوسطى، في كتابات «يان التشارنكوفي» تحدث عن دوق ليتواني كبير يدعى«يوغيلا» كانت أمه مسجونة في عام 1381 في «ألبا روسيا»، وقد استخدم مصطلح «ألبا روسيا» لاحقاً من قبل البابا «بيوس السادس» عند تأسيس جمعية اليسوعيين في عام 1783. أشير إلى البلاد تاريخياً بالانجليزية باسم «روثينيا البيضاء»، وكان أول استخدام معروف لاسم «روسيا البيضاء» للإشارة إلى «بيلاروسيا» في أواخر القرن 16 من قبل السير «جيروم هورسي» الإنجليزي. وخلال القرن 17 استخدم القياصرة الروس اسم «روسيا البيضاء» لوصف الأراضي التي تم الاستيلاء عليها من دوقية «ليتوانيا الكبرى» بعد «الثورة البلشفية» في عام 1917. تسبب مصطلح روسيا البيضاء أيضاً ببعض الالتباس لأنه كان أيضا اسم القوة التي عارضت «البلاشفة الحمر»، وهي ما تعرف بـ«ثورة أكتوبر» المرحلة الثانية من الثورة الروسية، وهي تعد أول ثورة شيوعية في القرن الـ20 الميلادي. القراءة تحتل الفنون والقراءة مكانة بالغة في «مِنسك»، حيث يوجد في «مِنسك» وحدها 790 مكتبة، و50 مدرسة فنون لديها 95 فرعاً فيها، وذلك لخدمة أكثر من 5000 شخص، وهناك أكثر من 6000 شخص مساهم ومتطوع في جمعيات ونوادي «مِنسك» الفنية، يذكر أن السلطات تولي اهتماماً بالغاً بالثقافة وتطوير التراث، وإعادة النصب التذكارية المنتشرة كذلك في«مِنسك». تقف مكتبة «مِنسك» أكبر وأفضل مكتبة فيها وفي الجمهورية، يعود أصلها إلى عام 1922، ودشن مبناها الجديد في عام 2006، ويقوم على توفير مجموعة واسعة وغنية من الكتب المختلفة في شتى المجالات وبمختلف اللغات، ومنها العربية. يأخذ تصميم المكتبة شكل الألماسة للتأكيد على قيمة وأهمية المكتبة للقراءة والاطلاع اللذين يوازيان ويفوقان القيمة المادية للألماس. تضم المكتبة ذات الثلاثة طوابق، قاعة مؤتمرات إلى جانب متحف يضم مجموعة فريدة ومميزة من كتب نادرة تعود إلى عصور مختلفة، منها أوراق البردة، ومخططات ومجلدات ومصحف قديم. وتتيح المكتبة فرصاً للمواهب الفنية الشابة لعرض أعمالها في أحد طوابقها الثلاثة، هذا إلى جانب أعمال فنانين محليين معروفين تتوزع ما بين لوحات مختلفة ومنحوتات. فلكلور يشتهر الفلكلور البيلاروسي بغناه بالأعياد، والأساطير، والأغاني، والاحتفالات، وأهم هذه الأعياد يحدث في شهر يوليو يسمى بـ«كبالي»، حيث يرقصون ويغنون في حلقات والقفز على النار، والبحث عن زهرة السرخس، واحتفال انتهاء فصل الشتاء وقدوم الربيع «ماسلينيتسا»، يرقصون فيه كذلك حول النار، ويمارسون طقس الصوم ويأكلون «البان كيك» الذي يرمز إلى الشمس، فضلاً عن «الكافيار»، وفيه يطلب كل شخص من أصدقائه وأقاربه السماح حتى وإن لم يخطئ، ويكون الجواب «الرب يسامحك». |
انعكست جهود أفراد «مِنسك» في مجالات عدة لعبت دوراً كبيراً في اقتصاد «منسك»، ومنها مجال الصناعة، ولعل أبرزها صناعة الشاحنات، حيث تمتلك اليوم «مِنسك» واحداً من أكبر مصانع إنتاج الشاحنات الذي يحتل المركز الثالث في سوق السيارات الضخمة في العالم، حيث ينتج مجموعة واسعة من الشاحنات الضخمة التي تصل أعلى حمولتها إلى 360 طناً.
يصدر المصنع «بيلاز» الذي يعد الأكبر في«بيلاروسيا»، 95٪ من منتجاته خارج الجمهورية، إلى أكثر من 65 دولة، منها دول قارة إفريقيا إلى جانب قارة أستراليا وغيرها. ويحرص المصنع المحلي على التعاون مع الخبرات الشابة في تعزيز تكنولوجياته المستخدمة، وذلك عن طريق التعاون مع الجامعات التي تعنى تخصصاتها بمجالات التكنولوجيا التي تميز صناعة الشاحنات، لاسيما أنها معدة للعمل في الظروف الجوية الصعبة.
نجح المصنع في زيادة صادراته الخارجية، الأمر الذي يمهد الطريق أمامها لتحقيق أهم أهدافها لحقبة الخمس سنوات المقبلة، وهي معادلة عمليات التجارة الخارجية، والوصول إلى فائض 150 مليون دولار أميركي في نهاية العام 2015.
في الجانب الزراعي تعد «مِنسك» منطقة ذات قدرة زراعية هائلة، وتعد الصفة المميزة أن لديها بنية تحتية متطورة للتجارة الزراعية، فقطاع الزراعة في المنطقة يحوي أكثر من 34 منطقة زراعية و470 مزارع شخصية تمثل ربع الإنتاج الزراعي في البلاد، وهناك ازدياد بالمنطقة في إنتاج الألبان واللحوم والحبوب والبطاطس والشمندر والخضراوات، وخلال الخمس سنوات الأخيرة بنيت فيها 325 مدينة زراعية تتلاءم جميعها مع تركيبة المراكز السكانية المحلية.
وإلى جانب مجال الصناعة والزراعة، حرصت حكومة «مِنسك» على استثمار إمكاناتها وجهود وخبرات أفرادها في المجال الطبي، حيث افتتحت في العام 2010 واحداً من أشهر المراكز الصحية في جمهورية «بيلاروسيا» متخصص في زراعة الخلايا الجذعية، التي يرفض قبولها من متبرعين دون سن الـ«18» على خلاف دول عدة.
صحة وسياحة
من أبرز المراكز الصحية في «مِنسك» المشهورة بعلاجاتها المميزة منتجع صحي استجمامي، يتيح من خلال توفير أماكن سكنية لزواره فرصة الجمع ما بين العلاج والاستجمام في الوقت نفسه.
يقدم المنتجع الصحي الذي احتفل العام الماضي بعامه الـ50 باقة منوعة من العلاجات في مرافقه المتعددة، والتي لا تقتصر على غرف وأجنحة العلاج العلاج المزودة بأحدث التكنولوجيات والوسائل، بل تتعداها لتشمل وسائل ترفيهية كالصالون وصالة رياضية متعددة الاستخدامات، وحوض سباحة، وغيرها، جامعاً بذلك العلاج والاستجمام تحت سقف واحد.
يذكر أن فكرة المنتجع جاءت بعد اكتشاف مياه طبيعية في موقعه تشفي من أمراض مختلفة، ومن أشهرها السكري، وعليه تم تمديد الأنابيب الكفيلة بإخراجه وإنشاء أماكن ليقصدها الزوار، ومن ثم اتسع ليصبح المنتجع الصحي ذا الخدمات العلاجية والاستجمامية.
وعلى الجانب الآخر لعبت الثروة الحيوانية لـ«مِنسك» دوراً مهماً في نهضة اقتصادها، وذلك عن طريق تصدير اللحوم على اختلافها إلى جانب منتجات الألبان، وتحتضن «مِنسك» واحدة من أكبر المنشآت الخاصة بتربية الدواجن والأبقار، والتي منحت الميزة العالمية التي تجعل منتجاتها ملائمة للتصدير في الدول الأوروبية.
أسهم حصول «ديزيرزهينسكي»، التي تقوم بإنتاج 9000 لتر حليب في السنة، شهادة ذبح جزء من منتجاتها بالطريقة الإسلامية من دار للإفتاء في روسيا في انتشارها هذا، إلى جانب ابتعادها عن استخدام الحقن واعتمادها على سير العمليات الإنتاجية بشكلها الطبيعي.
استثمرت الشركة شهرتها بالاستثمار في المجال السياحي، وذلك عن طريق القيام بإنشاء مشروع سياحي عائلي يتوزع ما بين «شاليهات» تطل على بحيرة صناعية مرفقة بحمامات خاصة «السونا الروسية»، هذا إلى جانب حديقة حيوان مفتوحة تضم مجموعة واسعة من الحيوانات، بالإضافة إلى خنادق موزعة بالقرب منها عبارة عن متاحف تجسد حياة الجنود وممارساتهم، وذلك بواسطة نماذج حقيقية من الأدوات والأغراض الخاصة بهم.
يعد المجال السياحي في«مِنسك» من أغنى المجالات ذات الوزن في اقتصاد الدولة، الأمر الذي ينعكس في معالم سياحية منوعة يتقدمها متحف «الفنون الوطني» الذي دشن في عام 1939، ويضم، رغم نهب قطع كثيرة منه خلال الحربين العالميتين توجد اليوم في ألمانيا وروسيا، 30 ألف قطعة يعرض منها فقط 10٪.
تشكل مقتنيات المتحف الـ30 ألفاً إرثاً فنياً وتاريخياً غنياً يعود إلى قرون مختلفة، تتوزع ما بين لوحات منوعة، منها «البورتريه» لشخصيات معروفة كأفراد من العائلات المالكة، ويبلغ تأمين كل لوحة مليوناً ونصف المليون يورو، هذا إلى جانب تحف ومنحوتات، بالإضافة إلى أقمشة تقليدية وغيرها، ومجموعة من الأواني الزجاجية والكاسات التي تمثل الفن الحديث.
وإلى جانب المتحف والأماكن السياحية المغلقة في «مِنسك» كالكنائس المختلفة، هناك الأماكن السياحية المفتوحة التي تستثمر الظروف الجوية في خدمة طبيعة خدماتها، ومن أبرزها مشروع «سيليجي» المدشن في العام 2006، والذي يضم منطقة كبيرة لممارسة التزلج، وغيرها من الألعاب الرياضية التي تختلف وتتنوع باختلاف الفصول، والتي خصصت لها كذلك قاعة متعددة الاستخدامات.
ولا يقتصر مشروع «سيلجي» على توفير أكبر وأفضل التلال الطبيعية في «بيلاروسيا» لممارسة رياضات التزلج على اختلافها فحسب، إلى جانب فرصة الاستمتاع بالقيام برياضات أخرى، بل يتعداه إلى توفير مجموعة من المرافق تتوزع ما بين «شاليهات»، و«حمامات السونا الروسية»، المنتشرة في «بيلاروسيا»، هذا إلى جانب فندق يضم مركزاً صحياً يوفر مجموعة من العلاجات وفرص الاستجمام لزوار المشروع والفندق كذلك.
الرياضة
تولي «مِنسك» أولوية خاصة بالرياضة، الأمر المتمثل في إنشائها مبنىً رياضياً متعدد الوظائف، يضم واحداً من أكبر خمسة ملاعب هوكي في أوروبا، ويستعد لاستضافة بطولة الهوكي العالمية في مايو العام المقبل، ويمكن أن يستخدم هذا الملعب الذي شهد زيارة مشاهير عدة، مثل المغنية شاكيرا والممثلة جنيفر لوبيز، لرياضات أخرى كرياضة كرة السلة وغيرها، ويستوعب ما يزيد على 5000 مقعد. وينقسم المبنى الرياضي «مِنسك أرينا»، الذي تبلغ مساحته 5000 هكتار، إلى ثلاثة أقسام أعدت وفق المقاييس العالمية، إلى جانب صالة الهوكي، هناك صالة خاصة بالتزلج تحتوي على ثلاث حلبات أعدت وفق المقاييس العالمية، بالإضافة إلى صالة خاصة بممارسة لعبة الدراجات الهوائية على حلبة خشبية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news