عرض «جيد» وقع في إشكالية إيصال وفهم الفكرة
مسرحية «مساء الورد».. خاطبت الغـربة وانهيار القيم في العالم
«ما جدوى أن تشعلي شموع الأرض، والروح مظلمة»، هي الغربة والاغتراب والغياب عمن نحب لنصبح أرواحاً باردة لوثها غبار الزمن ووحشة المكان، فما عاد نور الشمس الساطع ينهض تلك الروح من عتمتها.
بنص فلسفي عميق خرج معه المتفرجون بحزمة من التساؤلات والتأويلات، منهم من قال إن النص يحاكي «الربيع العربي»، وآخرون أسقطوا تأويلاتهم على حكاية «سجن أبوغريب» الشهير في العراق، أما المخرج والمؤلف محمود أبوالعباس فكان يتقصد في نص مسرحية «مساء الورد»، أن يخاطب الغربة وانهيار القيم، من خلال استفزاز متلقي العرض عبر نص كتبه بطريقة غير متسلسلة الأحداث. ولأن النص يحمل مغازي كثيرة أسهمت في صعوبة فهمه، صارت أحداثه تدور في حلقة شبه مفرغة، الأمر الذي أربك المتفرج وهبط بإيقاع العمل في بعض الأحيان، وقد سادت النص مشاهد صراع السلطة الأبوية والسلطة الذكورية والسياسة، لذلك فتح العمل الكثير من أبواب التأويل، خصوصاً أن الفكرة تجريدية صبغها المؤلف ببعض الغموض الذي لم ينعكس على النص فقط، إنما على بعض الممثلين؛ الأمر الذي تسبب في مشكلة توصيل تلك الفكرة للمتلقي الذي شعر في أحيان كثيرة بثقل وإنهاك جراء محاولاته متابعة العرض وتفسير تأويلاته.
فكرة الاغتراب
لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط. |
«مساء الورد» لمسرح دبي الأهلي، عمل قائم على فكرة الغربة والإحساس بتعب ذلك الاغتراب الذي ينهك الروح قبل الجسد، لاسيما إذا كان هذا الاغتراب يبعدنا عمن نحب، فالعمل كان يسعى إلى ايصال مجموعة أفكار تثير عدداً من القضايا الاجتماعية منها التفكك الأسري، والتنافر في علاقة الأب بابنه، واغتراب البنت وسط أسرتها بعد أن جردوها من حبيبها، إضافة إلى الصدمة النفسية التي حلت بالطفلة التي قُتلت أمها أمام عينيها.
تدور أحداث المسرحية في مكان مجهول، هو أقرب إلى سجن قديم تفوح منه رائحة الموت، وبرودة السكون الذي يفزع من يمر به، فكيف إذا سكنت به عائلة واعتقدت انه المأوى والمكان، وتوهمت أنها ستجد الراحة في سكونه، والاستقرار بين جدرانه الباردة، ولكن ما إن تدخل من بوابته الضخمة، تتكشف شخصيات يسكنها الخوف من المجهول، ويلاحقها الخوف من الماضي، خصوصاً انهم يعتبرون أن في الخوف تكمن السلامة.
على الرغم من سكون المكان وظلمته والبرد الذي يعصف بأركانه، إلا أن صوت الأب «بلال عبدالله» كان مجلجلاً لاسيما مع وجود ذلك التنافر بينه وبين ابنه الكبير «حسن يوسف»، والخلاف الذي كان متأججاً لأسباب لم تتكشف إلا في نهاية العرض، وعلى الرغم من صراخهما المستمر تبقى هناك تلك المشاعر التي تتحرك بين الحين والآخر بينهما؛ إلا أن كرامة الأب وفورة الشاب شكلتا ذلك الجليد الذي لم يترك مجالاً للحوار بينهما، فقرر الشاب مغادرة هذا المكان الذي جاء إليه مع أسرته للاحتماء ربما من عدو يتربص بهم، أو حرب تدور خلف أسواره «إنه الهرب من المجهول إلى المجهول».
شموع طفلة
في بقعة ضوء أخرى كانت الأخت الكبرى «بدور محمد»، وأختها الصغرى «ريم زهير»، تجلسان في دهشة وفزع من المكان المجهول المتسخ، فالأخت الكبرى تسعى لإقناع والدها بالهروب من هذا المصير المجهول، أما الصغرى التي تعاني إعاقة ومرضاً نفسياً، فكانت طوال الوقت تضيء الشموع الواحدة تلو الأخرى، في تعبير صامت عن معاناتها، فقد شاهدت والدتها تقتل أمامها في الظلام، لذلك وجدت من تلك الشموع بصيص أمل في الحياة الموحشة والمظلمة.
إلا أنهم ليسوا الوحيدين في هذا المكان، انما تشاركهم أشباح لأشخاص كانوا موجودين في الماضي، من بينهم الشاعر، حبيب البنت الكبرى «ماجد الصاوي»، الذي سجن من دون ذنب غير أنه أحب، فوالدها كان يعتقد أن هذا الغريب دنس شرف ابنته التي ما عرفته إلا صوتاً عذباً يغرد بشعره، فيسكنها دفء الحب من دون أن تقابله، أما الآن فلن تتخلى عنه ولو كان شبحاً، إذ بمجرد ان تحدث إليها تذكر ذلك الصوت الذي تربع على عرش قلبها فصارت تلاحقه من مكان إلى آخر متناسية وحشة هذا المكان المجهول، فهو شعر بألم الموت لكنه لم يجرب عذاب الفراق. أما الأب فظهر له شبح السجان «أحمد مال الله»، الذي وصف نفسه بأنه روح مهلهلة فقدت هيبتها، فبعد ان كان العالم كله يسير بإشارة منه أصبح الآن نكرة، إذ أصيب برصاصة في رأسه على يد أحد السجناء الذين فروا من السجن بعد اندلاع الحريق، وكان الأب في ذلك الوقت يعمل طباخاً في هذا المكان الموحش، أما الابن فقد التقى بصديقه «عبدالله الحريبي»، فصار يتذكر معه خلافاتهما وتباين أفكارهما، فكل واحد منهم يسير على منهج خاص به هو، فالصديق كان يفكر بطريقة غريبة، فهو ضد كل شيء.
حقائق تتكشف
تتصاعد الأحداث وتتكشف حقائق الصراعات التي كانت في البداية مبهمة، فخلاف الأب وابنه تأجج بعد وفاة والدته التي استخدمها الأخير لتكون درعاً تحميه من رصاص العدو، هذا المشهد لم يغب عن ذاكرة الأب، أو حتى الطفلة التي اقعدت بسبب هذه الحادثة، أما الابنة الكبرى فكاد حرمانها من حبيبها يصيبها بالجنون، لاسيما أن والدها كان سبباً وراء سجنه، في تلك الأثناء وقف الأشباح يطالبون الأب وأبناءه بالرحيل من هذا المكان، ورفعوا لافتات لم يكتب عليها شيء، وما إن تحقق لهم ما يريدون هجم السجان على بقية الأشباح في إسقاط لما يحصل الآن في العالم العربي من ثورات وما يتبعها من تناحر بين الأطراف المجتمعة لتحقيق الثورة، وكيف ءن الجميع يريد الاستيلاء على السلطة واستغلال تلك الانتصارات لمصلحته.
وفي مشهد إنساني لامس مشاعر الجميع، قامت الطفلة بغسل الأشباح وتنظيف الغبار الملتصق بأجسادهم المتحللة، تلك الطفلة التي على الرغم من إعاقتها وصعوبة حركاتها، لقنت الجميع درساً بأن الأرواح يجب أن تتطهر ليتحقق السلام وليتمكن الجميع من المشاركة في الحوار، فالماء طهر أرواحهم وغسل قلوبهم التي تضمر الكره والحقد، والشموع التي وزعتها في زوايا المكان قد لا تضيئه بشكل كامل، لكنها بصيص أمل يلوح في الأفق.
وفي نهاية المشهد وجد الأب نفسه وحيداً قابعاً وسط مكان خالٍ من كل شيء سوى شموع الأمل، وحقيبة بها سلاح مزيف، وخوف من الهموم التي عشعشت في عقله، فقد كان يتوهم كل تلك المشاهد والأشخاص الذين سكنوا ذاكرته، فهو في حالة اغتراب مع ذاته أيضاً «فما جدوى أن تشعل شموع الأرض والروح مظلمة».
نص مُلغز
وصف نقاد مسرحيون شاركوا في الندوة التطبيقية التي تلت عرض مسرحية «مساء الورد»، النص بأنه مُلغز، خصوصاً أنه يدور في حلقة مفرغة، ما هبط من قوة العمل في بعض الأحيان، كما أن اللغة أسهمت بشكل ما في مفاقمة عدم فهم النص، لاسيما أن اللغة كان بها فائض من التجريد، ومن الأولى أن تكون متماسكة لتضيء جانباً من الرؤية، إذ إن البحث والغوص في أعماق ونفسيات الشخصيات أتعبا الكثير من المتفرجين، ليس المتلقي العادي فحسب بل طال حتى النخبة.
ولم يخلُ العمل من الجوانب الإيجابية، فقد اعتبر العمل ممتعاً وشد الانتباه لدرجة ان الجماهير في الصالة كانت مندمجة مع أحداث المسرحية في محاولة لحل لغز حير الجميع، كما أن الأداء كان مقنعاً والديكور معبراً ويشبع المستوى البصري. كذلك هنالك اختيار جمالي جيد في شمعة الأمل، الأمر الذي يكشف عن مخرج ومؤلف واعيين تماماً بالمسرح، إذ إن روح المخرج كانت موجودة من بداية العرض حتى نهايته، كما تحسب له الموسيقى الجيدة المستخدمة إضافة إلى التلاعب بالإضاءة واستخدام بقع الضوء وتوظيفها بشكل مميز.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news