أمسية احتفائية ومعرض لإبداعات الراحل في «اتحاد الكتاب بأبـوظبي»

ناجي العلي.. محرّر المخيلـة بقلم رصاص

صورة

رغم مرور ما يقرب من ‬25 عاماً على وفاته، مازال ناجي العلي حاضراً في الآلاف من الرسوم الكاريكاتيرية التي تركها خلفه، ومازالت تعبّر عن ما يجري في الوطن العربي والعالم، وفي ذاك الطفل الصغير «حنظلة» الذي يقف معطياً للجميع ظهره، عاقداً ذراعيه خلف ظهره تعبيراً واضحاً عن رفضه لكل ما يجري. ولعل الحضور الأهم لناجي العلي الذي حرر المخيلة من الصورة السائدة عن اللاجئ والمناضل بقلم رصاص، هو حضوره في قلوب محبيه، وهو ما انعكس على الحضور للأمسية التي نظمها، مساء أول من أمس، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات فرع أبوظبي، بالتعاون مع مجلس العمل الفلسطيني بأبوظبي، بمناسبة مرور ‬65 عاماً على النكبة.

«فاطمة» القضية والحل

http://media.emaratalyoum.com/images/polopoly-inline-images/2013/05/02-;;;;;3.jpg

تناولت الشاعرة والكاتبة الدكتورة فيحاء عبدالهادي، محوراً مختلفاً في حديثها خلال الأمسية، إذ ركزت على حضور المرأة في رسوم ناجي العلي، والمتمثلة في «شخصية فاطمة التي شكَّلت بوصلته، وضميره الحي، عبر امتداد حياته الفنية، وتصدَّرت معظم رسوماته. ورغم أنه رأى من خلالها: قيم الحق والخير والجمال الإنساني، فكانت رمزاً للأرض، وللصمود، وللمقاومة، إلا أنه رأى الإنسان العادي أيضاً، الذي يشقى، ويكدح، ويقاوم شروطه الإنسانية الصعبة، ويستمر، ما جعلها تجمع بين الرمز والواقع، وبين الخاص والعام».

ورسمت فيحاء في ورقتها التي حملت عنوان «فاطمة ـ ناجي العلي: لا تساوم ـ ارسم وقاوم»، أبرز ملامح هذه الشخصية كما ظهرت في رسوم العلي موضحة: «مثلت فاطمة الوجدان الجمعي للشعب الفلسطيني ونبضه الحيّ، وكانت بوصلته حين يضلّ الطريق. وكغالبية أبناء الشعب الفلسطيني لم تذق فاطمة شيئاً من رغد العيش، بل عاركت الحياة وعركتها، فأكسبتها حكمة وبصيرة، لم تضنّ بها على زوجها، أو أبنائها، أو شعبها».

وتابعت: «شاركت زوجها حياته وشقاءه ونضاله، لكنها لم تشاركه يأسه أو إحباطه، ولم تستسلم للهزيمة قط. ورغم أن حياتها كانت بائسة وفقيرة، كما حياة حنظلة وزوجها الطيب، إلا أنها كانت تحرص على جمال مظهرها، فتكحِّل عينيها الجميلتين، بكحل طبيعي حيناً، وبعلم فلسطين حيناً آخر، وتضع سلسلة على صدرها (مفتاح العودة)، وتلبس الثوب الفلسطيني بالألوان الزاهية الجميلة. فاطمة هي الإنسان العادي الكادح، الرجل والمرأة، التي ترى أبعد من الشعار، وتربط بين البعد الوطني والقومي والطبقي. وهي الحلّ حين يستعصي الحل، وهي العين التي تنظر صوب الوطن، مهما رأت من جمال خارجه».

وصاحب الأمسية معرض ضم ما يقرب من ‬100 عمل كاريكاتيري متنوع في الموضوعات والفترات الزمنية، لإلقاء الضوء على مشروع ناجي العلي الإبداعي.

وسبق الأمسية عزف على آلة القانون قدمه الطفل أحمد الشيخ.

بينما ألقى رئيس مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، الشاعر حبيب الصايغ، كلمة أشار فيها إلى أن ناجي العلي قلب معادلة القوة، فلم يعد يمثل الضعف في مواجهة القوة التي اغتالته، بل صار قوة لم يهزمها حتى الموت، لافتاً إلى حرص الاتحاد على الاحتفاء بالنماذج والرموز الوطنية والقومية في الوطن العربي.

وفي مداخلته توقف الكاتب والشاعر محمد الأسعد، أمام مسألتين تتعلقان بناجي العلي لم يتطرق لهما كثيراً في وسائل الإعلام أو الدراسات التي اهتمت بهذا الفنان النادر، هما دوره ناقداً أخلاقياً رفيعاً، ودوره محرراً للمخيلة، مشيراً إلى أن نقد ناجي العلي فاتحة في مجال فن الكاريكاتير العربي، وانتقل به إلى مستوى أعلى وأكثر أهمية، وارتبط في ذهن القارئ باللاجئ الفلسطيني، وهي الرابطة التي تكاد تختفي هذه الأيام، وأخلص لفلسطين ووضعها أمامه بوصلة، وفي سبيلها قاوم كل وسائل الإغراء.

موقف

أوضح الأسعد في الأمسية التي قدمها رئيس الهيئة الإدارية لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات فرع أبوظبي، محمد المزروعي، أن «ناجي العلي تحول من البوح السياسي إلى النقد الأخلاقي، خصوصاً مع بداية المقاومة في الستينات من القرن الماضي، وتطور الأوضاع وظهور سلبيات، مثل التعيش على المقاومة الفلسطينية، وظهور الفلسطيني الذي يتاجر بقضيته، وكان التوجه الرسمي تجاه عدو الخارج وإغفال الداخل، بينما ركز العلي على الداخل ومعاناه الفلسطينيين البسطاء الذين كانوا ضحايا للمتعيشين، ما جعله قريباً منهم ومعبراً عنهم». وأضاف الأسعد أن «ناجي العلي لم يكن ساذجاً، فكان مثقفاً ثقافة رفيعة، وكان يقرأ كثيراً ليعمق رؤيته الثقافية، ولولا ذلك ما كان ليصل إلى هذا الموقف السياسي المضيء، وما استطاع أن يقدم رسوماً مازالت تعبّر عن واقعنا الحالي، فقد كان أشبه برجل يتنبأ».

وعن دور العلي محرراً للمخيلة، ذكر الأسعد أن «الإنسان دائماً أسير للصور الموجودة في رأسه، وناجي العلي استطاع أن يقدم صورة مهيمنة في مواجهة الصور الأخرى السائدة لدى الجمهور، فقدم الزعيم إنساناً يمارس حياته في مواجهة الصورة الملائكية التي كان يتم تكريسها، وهو ما جعل الإنسان العادي يتحرر من الصورة المهيمنة عليه ومن خوفه أيضاً.. ولم يكن ناجي العلي فرداً كان جبهة، ولهذا قتله الشيطان الذي عراه في رسوماته وخلص الناس من خوفهم منه».

ملح القهوة

الكاتب محمد خالد، من جهته، أشار إلى أن أكثر من زعيم وأكثر من فصيل وجماعة، حاول أن يجذب ناجي العلي، ولكنه كان عصياً على الاستقطاب، فلم يرتهن قلمه لأحد سوى قضيته الأولى والأخيرة، مضيفاً في كلمته خلال الأمسية: «كانت رسوم ناجي العلي بمثابة كمية الملح التي يسكبها في فنجان القهوة الصباحي للحكام فيعكر مزاجهم طوال اليوم، إذ كان كاريكاتيره مشواراً سياسياً يدخل كل البيوت مثل رغيف الخبز. كما رسم العلي كثيراً عن الشرف الحقيقي الذي هتك، شرف الوطن الذي استبيح من أجل نظام عاجز».

وشدد خالد على «انحياز الفنان الراحل الكامل لقاع المجتمع الفلسطيني والعربي ودفاعه الباسل عن الفقراء والمضطهدين في إفريقيا وأميركا اللاتينية، كما كان قلمه مغناطيس أعداء، وكان يجابه كل الرشاشات وكاتم الصوت بقلم رصاص صغير يخيف به الجبابرة. وكثيراً ما كان يرسم كاريكاتيراً من دون تعليق ويترك للقارئ تلك المهمة، فكثرة الكلام دليل على قلة معناه.. وعندما كان شتاء الغضب ينزل على ناجي العلي كان عليه أن يمشي بين النقاط من دون أن يصيبه البلل. وعندما أطلق مجهول الرصاص على رأسه، توقف عن الرسم، ولكنه لم يتوقف عن الحياة. وكما يقال الأشجار تموت واقفة، ثمة نوع نادر جداً من الأشجار يتوقف عن النمو ولكنه يظل يحرس الغابة».

وأشار خالد إلى أن قرية «الشجرة» شمال فلسطين التي ولد فيها ناجي العلي، ودمرها الغزاة في ‬1984 تدميراً كاملاً «ولكن ناجي العلي خلدها على الورق فلم تعد قابلة للتدمير مرة أخرى، وعندما استشهد قرر محبوه أن ينقلوا جثمانه ليدفن في مخيم عين الحلوة في صيدا، حسب وصيته، ولكن أكثر من فصيل هددوا بمنع ذلك بقوة السلاح فتقرر دفنه في مخيم أجنبي كبير اسمه لندن.. لقد قتلوا ناجي العلي قبل ‬25 عاماً، ولكنهم مازالوا يرتجفون من رسوماته التي يتكرر نشرها كل يوم، ومازال يضع الملح في قهوة قاتليه كل صباح، ومازالت صورته تقض مضاجعهم، وتفسد عليهم أحلامهم».

تويتر