العَلَم.. يرفرف في فضاءات وطنية وجمـــالية
«بِيضٌ صَنَائِعُنا سُودٌ وَقائِعُنا... خُضرُ مَرابِعُنا حُمرُ مَوَاضِينا» من هذا البيت الشهير لصفي الدين الحلي استلهم الشاب الإماراتي؛ في ذاك الوقت، عبدالله محمد المعينة، الذي يشغل اليوم منصب وزير مفوض بوزارة الخارجية، علم دولة الإمارات الذي قام المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان برفعه عند إعلان قيام الاتحاد في الثاني من ديسمبر عام 1971. ألهم ذلك البيت من الشعر للمعينة ألوان علم الإمارات الأربعة: الأخضر والأبيض والأسود في الأسفل والأحمر، ليصبح من ذاك الوقت العلم عنواناً للوطن وقداسته، وتحولت الصفحات التي يختزلها من مجد الزمن وصنائع الرجال مصدراً لإلهام المبدعين في مجالات الإبداع كافة عبر السنوات الماضية، ليرفرف برؤى مختلفة في فضاءات جمالية، تعكس مشاعر المبدعين بشكل خاص.
ابتكار
دعا نائب رئيس الهيئة الإدارية لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات فرع أبوظبي الشاعر سالم بوجمهور إلى ربط الإبداع بالعلم لدى الأطفال منذ صغرهم، بما يرسخ لديهم مشاعر الاعتزاز والفخر والانتماء للعلم ورموزه، معتبراً أن شراء العلم جاهزاً لا يترك في نفس الطفل التأثير ذاته عندما يقوم بنفسه برسم العلم، أو صناعته بخامات بسيطة وبأفكار مبتكرة، بما يجعله يشعر بالارتباط أكثر بينه وبين العلم، ويزيد فخره به. مساحة غنائية
الأغاني الوطنية والفيديو كليب كذلك أفردا مساحة للعَلم، بحسب المخرج الإماراتي جمعة السهلي، موضحاً أنه نفذ أغنيات وطنية مصورة بلغ عددها 13 أغنية، وكان للعلم دور البطولة فيها، فهو الرمز الباقي على الدوام، ومصدر الفخر، من بينها «العز عزك يا الإمارات» من كلمات الشاعر حميد بن سعيد النيادي، وغناء حسين الجسمي، كما قدم أغنية أخرى من كلمات الشاعر جمعة الغويص. ويسترجع السهلي الذي يقوم حالياً بتصوير أغنية وطنية جديدة؛ أحد المشاهد التي قام بتصويرها في إحدى أغنياته، وتعكس مكانة العَلم في نفوس أبناء الوطن، وفيه يبني طفل جبلاً من الرمال، ويضع على قمته علم الدولة، ثم يسقط المطر فيسارع الفتى إلى داخل منزله، لكنه يتذكر العَلم فيهرع إلى الخارج لإحضاره خوفاً عليه من المطر. |
ويعد الشعر من أكثر مجالات الإبداع التي برز فيها العلم عبر آلاف القصائد التي خطها الشعراء مصدراً للإلهام وموضوعاً للفخر والاعتزاز، وربما تكون أبيات الشاعر الإماراتي الدكتور عارف الشيخ «عيشي بلادي.. عاش اتحاد إماراتنا» أول ما يتبادر إلى الذهن عن الحديث عن الشعر والعلم، بعد أن ارتبطت في أذهان الجميع بتحية العلم منذ عام 1986، وتربى جيل كامل على ترديدها في الصباح الباكر في طابور المدرسة حتى ارتسمت كلماتها في وجدانه، وباتت جزءاً من تكوينه. هذه الأبيات كتبها عارف الشيخ بعد 15 عاماً من إعلان اتحاد الدولة، واستغرق ثلاثة أيام في كتابة النشيد الذي كان تكليفاً وأصبح تشريفاً على مرّ السنوات، بحسب ما ذكر.
ربما يكون الشعر هو المجال الأكثر إنتاجاً لإبداعات ترتبط بالعلم، نظراً لأن الفخر والحماس من الأغراض الشعرية القديمة التي نشأ عليها الشعر العربي في عصوره المختلفة، لكنه ليس المجال الوحيد، فهناك مجالات إبداع حديثة وعصرية كان للعلم مكان بارز في نتاج مبدعيها، ومنها السينما والأفلام، فرغم أن صناعة الأفلام لاتزال لم تحقق كل ما يصبو إليه صانعو الأفلام في الإمارات، ولايزال هناك الكثير لإنجازه في هذا المجال، لكن كان للعَلم نصيب في إنتاج صناع الأفلام الاماراتيين، مثل مجموعة «فيلا سينما» التي تضم عدداً من السينمائيين من أبناء الإمارات، إذ نفذ أعضاء المجموعة أخيراً فيلما قصيراً عن العلم، بالشراكة مع مؤسسة «وطني الإمارات»، وبدأ عرضه على الشاشات المحلية أمس، كما وضع على موقع «يوتيوب»، بحسب ما أوضح الكاتب والسينمائي الإماراتي محمد حسن.
وقال حسن لـ«الإمارات اليوم»: «نحن السينمائيين تعد الصورة البصرية والأفلام هي الأدوات التي يمكن أن نستخدمها للتعبير عن مشاعرنا وأحاسيسنا تجاه الوطن، وعن تفاعلنا مع الأحداث من حولنا»، مشيراً إلى أن العمل تقدمه المجموعة كفريق عمل لن يحمل أسماء من شاركوا فيه لأنه عمل جماعي.
وذكر حسن أن الفيلم ليس دعائياً، لكنه يحمل قصة عن العلم، وإطلاقه من خلال حكاية ولد صغير ورجل مسن، وهي قصة يمكن أن تحدث في أي بيت في الإمارات، وابتعد الفيلم عن السياق التاريخي المعتاد في مثل هذه الأعمال، لافتاً إلى حرصهم على إنتاج أعمال مختلفة تحتفظ بتأثيرها مع مرور الزمن من خلال الاعتماد على لغة سينمائية جديدة، ورؤية بصرية متميزة تضيف للعمل، على خلاف الأعمال التلفزيونية والبرامج الوثائقية.
شكل آخر من أشكال الإبداع كان العلم محركاً وموضوعاً لفنانيه، وهو الرسم والتشكيل، فهناك كثير من الأعمال التشكيلية التي استلهمت العلم وما يختزله من رموز تتخطى وصفه المادي المحسوس، ومن هؤلاء الفنانين الفنان الإماراتي محمد المزروعي الذي رسم لوحة للعلم تميزت عن كثير من الأعمال الفنية التي تناولت الموضوع نفسه بلمسها لجوهر العلم، وهو التفرد في المكانة والمعنى، إذ استخدم الفنان ختماً خاصاً يحمل كلمة «مونوتيب»، وهي تعني «نسخة واحدة»، تعبيراً عن مفهوم العلم «لا يتكرر ولا يتجزأ»، وغطى بها اللوحة التي رسم عليها العلم، بينما في الجزء الأسفل منه ظهرت أشكال بشرية في إشارة إلى ارتباط العلم بإنسان مكانه.
وأشار إلى أن أجمل ما في اللوحة أنه رسمها دون إرغام نفسي أو عاطفي «أعني بذلك أنني كنت أمام رسم لوحة فنية تعبر بصرياً عن الموضوع باعتباره فناً، كما تعتبر اللوحة أول عمل تجريدي أنفذه، ولا أوظف فيه الشخوص، في دلالة إلى ربط العمل بقيم جمالية وزمانية ومكانية، وهو ما سينعكس على طبيعة رسمي لأي أعمال تجريدية لاحقة».
وأضاف لـ«الإمارات اليوم»، «مع الوقت يلتغي شكل العلم ويتحول إلى ترميز ليصبح وطناً يختلط فيه كل حدث وأي حدث بداية من أفضل اللحظات حتى أحلك اللحظات، ومن هنا تأتي القيمة الجمالية للموضوع».
وكشف المزروعي أن لديه مشروعاً لرسم العلم الإماراتي متعدداً، وفي صور مختلفة ضمن أفكار مرتبطة بحالاته الخاصة، بما يسهم في تفجير مكنون اللون والشكل، بحيث يصبح العلم في اللوحات أشبه بسيرة ذاتية له، على أن تعرض لوحات المشروع في معرض خاص، مشيراً إلى أنه بصدد تحديد وقت عمل في المشروع يراوح بين شهر وثلاثة أشهر، وسيصاحب هذا التعبير البصري المتعدد مواد كتابية عن مفهوم الهوية ومعنى الوطن داخل الجغرافيا وخارجها، ورصد اتساع الشعور بالثقافة كنتاج ذهني قبل أن تكون نتاجاً اجتماعياً، لافتاً إلى أن ارتباطه بصورة العلم يعود إلى بداية وعيه الفني من خلال ارتباطه بلوحة الفنان الفرنسي ديلا كروا (1798-1863)، «الحرية تقود الشعوب»، وفيها امرأة تمثل الحرية وترفع العلم.
حضور العلم في الإبداع لم يقتصر عليه بشكل مباشر؛ لكنه امتد إلى لكل ما يرتبط به من رموز، ومن بينها التضحية والفداء، مثلما كانت قصة أول شهيد إماراتي «سالم سهيل» الذي استشهد في معركة طنب الكبرى عام 1971، موضوعاً لأعمال أدبية وإبداعية مختلفة مثل رواية «سهيل» للكاتب عبدالله الطابور، وهي رواية تاريخية تحكي بطولة الجندي سالم بن سهيل بن خميس الذي يعتبر أول شهيد يسقط قبل أيام قليلة من قيام دولة الاتحاد عام 1971، في معركة التضحية التي سطرها دفاعاً عن جزيرة طنب الكبرى التي كان الشهيد أحد أفراد الحراسة المكلفين حراستها مع ستة من زملائه لم يستسلموا قبل أن تنفد ذخيرتهم بعد معركة استمرت ثماني ساعات.