مسيرة طويلة مع النضال
مانديلا.. محرّر الظالم والمظلوم
«حينما خرجت من السجن كانت مهمتي هي تحرير الظالم والمظلوم.. تحول فهمي لحرية كل الناس، بيضاً وسوداً، فقد كنت أعلم أنه لابد من تحرير الظالم من الكراهية والتحيز وضيق الأفق».. مقولة لرمز لا يحتاج إلى مقدمات طويلة للتعريف به، فهو نيلسون مانديلا، وذلك كافٍ لتذكر قيم غرسها المناضل، الذي غاب يوم الخميس، في شعبه وشعوب الأرض كلها.
27 عاماً قضاها مانديلا وراء القضبان في سجن بجزيرة معزولة، وقبلها بسنوات ظل يحاول الهروب من سلطات تطارده، وألجأته إلى المنافي، والعيش في أمكنة مظلمة، فسعى إلى تعريف العالم بقضية بلاده، وطالب بحق الملونين في العالم كله، وليس في جنوب إفريقيا فحسب، بحياة تسودها العدالة والحرية، بعد أن عانوا مئات السنين، وعاشوا مغلوبين على أمرهم، وعبيداً في عين «الرجل الأبيض».
في مذكراته «نيلسون مانديلا.. مسيرة طويلة نحو الحرية» التي ترجمتها الدكتورة فاطمة نصر، وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يروي دوليهلاهلا (الاسم الأصلي لمانديلا قبل أن تمنحه إحدى معلماته في ما بعد اسم نيلسون)، كيف تبلورت أفكاره عن الحرية وأزمات بلاده، مشيراً إلى أن حياته في بدايتها كانت لا تشي بأي تحول، إذ كان منبهراً بأنماط «السادة البيض»، وأقصى طموحه أن يصبح «جنتلمان» على النمط الإنجليزي. لا يسعى مانديلا في مذكراته إلى تصفية حسابات مع من ظلموه وأذاقوا شعبه ويلات كثيرة، يبتعد عن عقدة المضطهد، ويحلم بنظام ديمقراطي عادل تعيش الأعراق في ظله كريمة وآمنة ومتساوية في الحقوق والواجبات. ينأى بذاكرته أن تعود إلى مناظر الدماء، وما أكثرها في تاريخ بلاده، يسعى إلى تأليف الجميع، ومساعدتهم على تخطي مرارات الماضي، بإعلاء قيم المسامحة في شكل مثالي لا يقدر عليه إلا قامة مثل نيلسون مانديلا الذي تطرق في المذكرات أيضاً إلى تفاصيل عن حياة الأسرة، والمشاعر الإنسانية التي كانت تنتابه في السجن، ولعل من أبرزها تلك اللحظات التي فقد فيها أمه وابنه، ومنعته السلطات من حضور جنازتهما، ما أثار شجوناً كثيرة في نفسه، وظلت تدور بداخله أسئلة كثيرة عن جدوى ما يصنع.
مانديلا، الزعيم الذي ينتظر العالم إلقاء نظرة الوداع عليه، قبل أن يوارى الثرى، ولد في 18 من يوليو 1918 (عام انتهاء الحرب العالمية الأولى، وكأنه سيكون باعث سلام) في قرية مفيزو بمنطقة ترانسكي التي تبعد مئات الأميال عن جوهانسبرغ، لأب زعيم قبيلة، لم تستمر زعامته طويلاً، إذ وقع ضحية حكم جائر من «سيد أبيض»، فقد على إثِره تلك المكانة والثروة أيضاً، ورحل الوالد والابن في التاسعة من العمر، لينتقل مانديلا الابن الى وصي يقوم على شأنه وتربيته.
لحظة التحول الكبرى في حياة مانديلا كانت حينما وضع قدمه في جوهانسبرغ، واصطدم بواقع التمييز العنصري فيها.
التحق مانديلا بأعمال مختلفة، جاهد مثل الكثيرين من أبناء شعبه، وعمل في أحد المناجم التي يذهب ريعها لمصلحة «السادة البيض»، التحق بالجامعة وحصل على إجازة الحقوق، وصار محامياً للفقراء، انغمس في هموم السود، وانخرط في العمل السياسي، وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، صار بعد فترة أحد أبرز وجوهه، وطاف أرجاء كثيرة في بلاده، ودخل في صراعات مع السلطات، خصوصاً بعد دعوات الاضرابات والعصيان المدني، واعتبرته السلطات أحد الملاحقين المطلوب القبض عليهم، ما دفعه إلى العيش مطارداً متخفياً، لا يخرج من الأماكن التي يتوارى فيها إلا ليلاً. نجحت السلطات في القبض عليه، وفي إحدى جلسات محاكمته دخل بزي قبيلته الإفريقي المميز، ما أثار حفيظة السلطات، وصادرت ذلك الزي، واستمرت الجلسات فترة طويلة، وحكم على مانديلا بعد ذلك بالسـجن مدى الحياة، وطارت شهرة المناضل إلى جميع أنحاء العالم، إذ نقلت صحف عدة دفاعه عن نفسه، ومهاجمته للنظام العنصري في بلاده، واعتباره سبب مآسي شعبه، مؤكداً أن قضيته ليست موجهة إلى كره البيض، بل العمل على خلق وطن ديمقراطي يتمتع فيه الجميع بالمساواة، ويعيشون معاً في سلام.
وخرج مانديلا من سجنه منتصراً على «التمييز العنصري»، وانتخب رئيساً لبلاده، وفي عز مجده، آثر ترك الساحة لسواه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news